دراسات و مقالات

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي لجنة الذرائعية للنشر

د. عبير خالد يحيي


حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي 
لجنة الذرائعية للنشر 

الشعر الحر قصيدة النثر:

وشدّدت فترة الحداثة على التقبّل الفكري و الأدبي، ودخل ميدان الشعر الحديث الكثير، خصوصًا دخول قصيدة النثر التي تعدّ بنت الحداثة المدلّلة وإفراز جميل من إفرازات الترجمة في الأدب العربي، كونها نوع صعب التجنيس، فهو قصيدة شبيهة بالخاطرة والنص المفتوح من الناحية البصرية في جغرافية التجنيس، واختلافها المفارق عن التكوين النثري، فالموسيقى الداخلية تنبع صعوبتها من محتواها الموغِل بالتكثيف السردي المموسق، فهي شكلٌ بصريٌّ يقود إلى الحيرة والالتباس بالتأرجح بين الخاطرة والنثر الشعري، ويقرّ ذلك إسفين الموسيقى العازل بين النثريّة والشعريّة بين جنباتها …. 
ظهر مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي( ) في مجلة شعر سنة 1960 للدلالة على شكل تعبيري جديد انتهت إليه الكثير من الأشكال التجريبية التي جرّبها جيل

النصف الأول من القرن العشرين، كالشعر المنثور والشعر الحر، ويعدّ في مرحلته بمثابة الثورة الأخيرة على عمود الشعر العربي في بعده الإيقاعي خاصة، وقد اعتمد كلّ من أدونيس وأنسي الحاج في دراستيهما التأسيسيّتين على كتاب سوزان برنارد ” قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا” إلى درجة القول: إنّ ما كتبه هذان الباحثان الشاعران لا يعدو أن يكون مجرّد تركيب لمقاطع من هذا الكتاب، وقد حدّدت سوزان برنارد لهذا الشكل الشعري ثلاثة خصائص تبنّاها كلّ من الباحثَين العربيين وهي :

أ ـ الوحدة العضوية :
فقصيدة النثر بناء يصدر عن إرادة واعية، وليس مجرّد مادّة متراكمة تراكمًا غفلًا، إنّها كلٌّ غير قابل للتجزيء أو الحذف أو التقديم أو التأخير بين مكوناته.

ب ـ المجانبة: فهذا الشكل جديد لا علاقة له بكلّ أشكال الكتابة المعروفة من نثر وشعر، ورواية ومسرحية، حتى ولو وظّف تقنيات هذه الأشكال، فهو شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق….

ج ـ الكثافــة:
يبتعد هذا الشكل الجديد عن كلّ خصائص النثر من استطراد وإيضاح وشرح وإطناب، وتكمن خاصيّته الشعريّة في كثافته وإشراقته، وبعبارة أدونيس إنّه ” كتلة مشعّة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات قادرة على أن تهزّ كياننا في أعماقه، إنّها 
عالم من العلائق”. عرفت “سوزان برنار” قصيدة النثر بقولها: “هي قطعة نثر ( )موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائيّة”. وعرّفها بعض الباحثين والمفكرين بأنّها جنس فنيّ ابتكر لاستكشاف القيم الشعريّة الموجودة في لغة النثر، ولإيجاد مناخ مناسب للتعبير عن التجارب والمعاناة التي واجهها الشاعر بتضمينه صورًا شعرية عريضة تتّسم بالكثافة والشفافية معًا…و تكمن أهميتها عند الحرص على تعويض الانعدام الوزني في القصائد التقليديّة، بمعنى أنّ شكل قصيدة النثر الفنيّ يسعى إلى التخلّص من قيود النظام العروضي في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، وقد اتفق بعض الأدباء على أنها نصّ هجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد معًا، ويتّسم بافتقاره للبنية الصوتيّة الكميّة ذات التنظيم، إلّا أنّ له إيقاعٌ داخليٌ منفردٌ بعدم انتظامه, ويبرز ذلك بتوزيع علامات الترقيم …

ميّزات قصيدة النثر حسب الغرب :

تتميّز قصيدة النثر بالميزات الغريبة التالية والتي بحثتُ عنها كثيرًا ولم أجد فيها ما ينصف تلك القصيدة, وأنا أراها متناقضة وتخرج بالقصيدة النثرية من الإبداع الشعري الذي تتضمّنه بين جنباتها :

 بخلوّها من الوزن والقافية, والتفعيلة.
 عدم احتوائها على المحسّنات البديعيّة. 
 تحررّها من الأنماط التفكيريّة وما يرتبط بها من قوانين وأحكام، أي أنّها تكتب وفقًا للفكر الخاص بالشاعر.
 وتمتاز بسكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع.
 إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة.
 الغموض وصعوبة الفهم والتفسير بشكل مطلق, لذا يتوجّب على قارئ قصيدة النثر التروّي والتأمّل في قراءتها.
 قابلية قصيدة النثر للتعديل، لذلك وصفت بإسفنجية البناء والتركيب….

وخلال تلك السمات الغريبة على الشعر العربي خرّجت “قصيدة النثر” من الشعر تمامًا! وهذا شيء خلافي حين تقرأ قصائد النثر لشعرائنا العرب في كلّ الحقبات، وينتفي هذا الخلاف الكبير بين النقّاد والباحثين العرب الذي زرعه فيهم رأي سوزان برنار وبعض الأدباء والباحثين والنقاد العرب, حيث باتوا لا يفرّقون بينها وبين الشعر الحُرّ، إلّا أنّ الأمر في حقيقته يكمن في إطلاق تسميتين لنمط كتابي واحد، والبعض يرى بأنّ هذين الجنسين – الحرّ والقصيدة النثرية – مختلفان تمامًا…وفي رأيي أنّ هذا الأمر يقودنا إلى أنّ قصيدة النثر هي قلب الشعر الحر لكونها تمرّغت بكامل الحريّة في موسيقاها الداخلية, وهي الوحيدة التي تستحق التسمية ( قصيدة النثر الحر)، ومن جهة أخرى يقود هذا الأمر إلى أنّ قصيدة النثر قد رأت نفسها بين أيدي العرب بشكل أكمل وأجمل منها وهي بين أيدي شعراء الغرب…..

نماذج مختارة من قصيدة النثر:

أعرض نموذجين الأول من عصر الحداثة السبعينات من القرن المنصرم للشاعر الحداثي الرائد الكبير (محمد الماغوط )، والثاني من عصر التقبّل والانبهار، الربع الأول من القرن الحادي والعشرين (2017) للشاعر العراقي الكبيرعبد الجبار

الفياض: وسنلاحظ الفرق بشكل واضح بين الجيلين في كتابة النص الشعري المنثور:

الشاعر الرائد محمد الماغوط

محمد الماغوط :

عكازك الذي تتَّكئ عليه يوجع الإسفلت
فـ”الآن في الساعة الثالثة من هذا القرن
لم يَعُد ثمَّة ما يفصل جُثث الموتى
عن أحذية المارة”.
♦ ♦ ♦
يا عَتبتي السمراء المشوّهة
لقد ماتوا جميعًا: أهلي وأحبابي
ماتوا على مداخل القرى
وأصابعهم مفروشة
كالشوك في الريح
لكنّي سأعود ذات ليلة
ومن غلاصيمي

يفور دمُ النرجس والياسمين

♦ ♦ ♦


عبد الجبار الفياض

مسٌّ من عِشق

الحالمةُ أنتِ
بعودةِ سُندُبادِها المُثقَلِ بأنفاسِ بحرٍ 
مخبول . . .
لا يلتئمُ موجُهُ الصّاخبُ إلآ بألمِ نوتيٍّ يخزنُ مواويلَهُ لإيابِ يومٍ
يحملُهُ لدافئِ حُضن . . .
. . . . .
بَ . . صْ . . رَ . . تِ . . ي 
أقولُها 
كَبدًا مقطّعةً ليطولَ يومي في محطاتٍ
سلَختْ من العُمرِ صِباه . . .
أمُّ البروم
سوقُ الهنود 
ساعةُ السّورين
سينما الحَمراء 
تومانُ ومزمارُهُ السّحريّ . . . 
انفتلَ الزّمنُ سوطًا
يلْهبُ قفاي
يُفتّتُ ما بقيَ مِنْ جَلَد 
صورًا 
ليستْ للبيْع ! 
. . . . . 
سمراءَ خليجِها 
استودعتُكِ التي ما أنا إلآ بها . . . 
ما استودَعَ بغدادَ قمرَهَ مُهاجر . . .
فحفظًا لِوديعةٍ 
في محرابِها واقفًا يسجدُ شعري . . .
. . . . .
ليستْ هي شبعادَ بقيثارتِها السّومريّة 
تعزفُ لحنَ الطّينِ الخالد . . .
لا عشتارَ
تهَبُ الخِصبَ لعقيمِ السّنابل . . .
سميرَ أميس في معروشاتِها المُعلّقةِ
تتنفّسُ غرورَها برئةِ الملوك . . . 
مانُكّرَ لها في لحظةٍ عَرش . . . 
إنّها سومريّةٌ فقط !
عندّها ما عندَهُن 
ليسَ ما عندَها عندَهُن . . . 
. . . . .
مزاميرُ قَصَب 
تتَلوّنُ بأفواهِ الرِّعاء
بشائرَ عُرسٍ 
تحرسُهُ من الحورِ عَين . . . 
كيفَ لهُدهُدٍ ضالٍّ أنْ يُخبرَ عن حُسنٍ رأى ؟
أحمرُ ؟ 
كما وصفَهُ أعمى البصرة . . . 
أمْ أنّ أبيضَهُ جمّارُ برحيّةٍ 
غلَتْ على مُتيَّمِها
فاستهام ؟
رُبَما هوَ مِزنةٌ 
توحمتْها أرضٌ يباب . . .
. . . . . 
انتظرتُها بينَ شروقٍ يولد 
وغروبٍ يموت . . . 
رحلةً من غيرِ حقائب 
حنينَ مُرضعة . . . 
واهًا لقلبٍ بهِ ماكتمَ أبو الطّيّبِ ما بَراه . . .
ويحًا 
هريرة
لوما علمتِ 
كيفَ تتلاشى اللّحظاتُ في عيونٍ لم تودعْها عُيون ؟
لا طاقةَ لمشطورٍ بينَ حِلٍّ وترحال !
خيطٌ مِنْ نار . . . 
ما دها دقاتِ قلبهِ 
لولا أنْ رأى برهانَ ربِه ؟
. . . . .
يا أنتِ
يا آخرَ القصائد 
تدليتِ عنقودًا في نشيدِ الأنشاد 
سلافةً لم يقربْها فَم . . . 
مَنْ منّا ظَمَأُ ؟
أغلقَ شفتيْه 
باحَ بوالهةٍ 
تناهتْ نداءً صامتًا 
طريقًا إليها 
من غيرِ أنْ تُغلّقَ أبوابٌ 
يُجرّدَ على عتباتِها سيْف . . .
بوصلةُ العشقِ لا تُخطئ . . .
. . . . . 
زائرتي طيْفًا 
تعصرُهُ سحابةٌ في حانةِ المطر 
بلا كأسٍ 
أحتسيه . . . 
فأعودُ من حيثُ أتيْت 
رِمشاً 
علِقتْ . . . 
مرودُهُ هاروتُ وماروت !
أكانتْ أفاعي أوروك 
تنفثُ عِشقًا ؟ 
ربَما في سمِّها لداءِ معلولٍ دواء !
هذا ما وَرَدَ في سِفْرِ مَنْ أصابَهُ مَسٌّ مِنْ عِشْق . . .
. . . . .
أيْ 
ابنَ الملوّح 
ابنَ ذريْح 
دُمْتُما زَمَنًا لا يُغلَق . . . 
كتاباً
ما بهِ إلآ هيَ بينَ دفتيْه . . .
لا لغيرِها يتَجلّى الشّعرُ على وصفٍ يقع . . .
لم يُبدعْهُ فيلسوفٌ فضاءً لمدينةٍ فاضلة . . .
النّقاءٌ
لا يُرسَم !
. . . . .
أيّها القيْسيان 
كيفَ عبرتُما إلى ضفةٍ بيضاء 
أساطينُ العرفانِ على بُعدٍ 
لَوَّوْا رؤوسَهم . . .
نزعَ الدّهرُ خُفَّه لسجدةِ الذّهول . . .
لعلَّها أجملُ بقعةٍ لم تدنسْها من سُفهاءِ التاريخِ قَدَم ! 
. . . . .
يا . . .
ويطوي الصّمتُ أرقَّ حروفٍ
لا أحسَبُ سواي يقولُها كذلك !
لتَحترقْ إلا ما أنتِ فيها . . .
ما ألقاهُ نيرونُ في أتونِ غرورِه . . . 
أوقدَهُ ملكٌ لحرقِ نبيّ . . .
ليستِ النّارُ بذاتِ لهبٍ فقط !
بقايا 
ليسَ لها أنْ تَغرفَ حياةً بعْد . . .
العراجينُ 
لا تلبسُ ثوبَها الذّهبيّ ثانيةً 
وتَرتَطب . . . 
. . . . .

ديسمبر /2017
……………………………………..

يستثنى من هذا التأثير المتبادل بين أنواع الشعر، (السرياليّة) ، التي تبنّى أصحابها الحداثة الغربية السلبيّة بغرض ومفهوم غربي بحت، ونفّذوا ما نصّت عليه المخابرات الغربيّة من تشويه في البنية الأدبيّة العربيّة الرصينة عن طريق الإيغال في الغموض المتصحّر، حتى تاهوا في مسالك الإسفاف والغموض المظلمة، وعزلوا أنفسهم عن هموم ومعتقدات وأخلاق مجتمعهم العربي، بدافع التحليق الشخصي في الفراغ و بمبدأ(خالف تعرف)، واستمرّوا في نسق الحداثة السلبية المرفوضة عربيًّا وإسلاميًّا, وجنحوا نحو التنويم المغناطيسي، ولا يزال الكثير منهم محلّقًّا بالغموض والفراغ والإسفاف ولا يدري و لا يفهم شيئًا عن واقعه الأدبي، وما يدور حوله من كوارث سببها الفكر الذي يتبنّاه و يفكر ويحلّق فيه هو نفسه….

عن كتابنا / الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية / 
لمؤلفه المنظّر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى