دراسات و مقالات

جماليات القبح جائحة كورونا أنموذجاً

حسين عجيل الساعدي

﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
صدق الله العظيم
سورة لقمان/ الآية 11

الثنائية الضدية (بنية لغوية متقاطعة اللفظ والمعنى)، وظاهرة فلسفية، لها الظهور الأول كمفهوم في مجال الدراسات النقدية الأدبية للمدرسة البنيوية الحديثة، صيغ هذا المفهوم من قبل العالم اللغوي (فرديناند دي سوسير)، وقد ذهبت المدرسة البنيوية في رؤيتها إلى (إقرار الطابع الثنائي، والتركيز عليه وأعتماده أساساً متيناً لإقامة مجمل دراساتها)، وجوهر هذه الرؤية يكمن ب(الرؤية الثنائية المزدوجة للظواهر، للكشف عن علاقتها التي تحدد طبيعتها وتكونها، فهي تخلق التوازن والتآلف بين الصفات المتضادة أو المتضاربة)، “علي عبد الامام، الثنائيات الضدية في شعر أبي العلاء المعري ص41 و42”. فالثنائيات الضدية، منظومات ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ، فكرية، دينية، كونية، حياتية، متكاملة، ومتعددة، ومتباينة، ومن هذه الثنائيات، ثنائية (الجمال/القبح)، وهي بؤرة محورية جدلية قائمة، ومتجذرة في التاريخ الإنساني، تقوم على أساس من التناقض، تحمل في جوهرها عنصر التضاد بين الجمال والقبح.
وعنوان (جماليات القبح)، يحمل مفارقة، حين نضع الجمال والقبح في موضع غير موضعهما المتعارف عليه. فحضور الجمال والقبح معاً، جنباً إلى جنب، يبعث على الأستغراب، والنقاش في هذا يأخذنا إلى نظرية (جمالية القبح)، التي تطرح الكثير من الأسئلة الأشكالية، ومن هذه الأسئلة، كيف يفسر علم النفس أنجذاب الإنسان الى الأشياء القبيحة رغم ما تتركه في نفسه من نفور؟.
“سيجموند فرويد” الطبيب النفسي أول من ناقش الأنجذاب النفسي المبني على النفور، وأطلق على هذا الشعور بـ(Uncanny) والتي (تشير إلى الشيء الغريب أو الغامض الذي ينطوي على جاذبية غير مفهومة).
أن معنى كلمة (قبيح) في المعاجم العربية هو:(كُلُّ ما يَنْفِرُ منه الذَّوق السَّليم ويأباه العرف العام)، أو (ما يحقق نفوراً، وكمداً، وتقززّاً). أما في قاموس أكسفورد (الشيء المُنفر للعين، أو المنبوذ أخلاقياً من المجتمع، وغير السار)، والعكس ينطبق على كلمة (الجمال) لأنها:(صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النُّفوس سروراً أو إحساساً بالانتظام والتّناغم)، أو (ما يحقق للمتلقّي لذّة جماليّة).
مفهوم(جماليات القبح) من مفاهيم عصر الحداثة، تناولته الكثير من الدراسات الأدبية والفنية والنقدية، على أنه مادة جمالية مجردة. لأن القبح موجود في كل مكان، يتمظهر في الكثير من الظواهر والمواقف، فهو حالة وجودية وجزء من تكوين العالم الذي يقف الإنسان في مركزه. فالقبح رؤية نسبية مغايرة، تتغير عبر الزمن، وتبعاً لأختلاف البيئة المجتمعية.
الفيلسوف الإيطالي “أمبرتو أيكو” في كتابه (تأريخ القبح)، ينفي أن يكون القبح نقيضاً للجمال، بل يتخذ القبح وسيلة لإظهار الجمال، لأن هناك أشياء قبيحة تحمل في جوهرها مسحة جمالية. وهذا يخضع تبعاً لمستويات الثقافة العامة والأذواق الجمالية. فهناك من الشعراء والفنانين والفلاسفة من أنتصر لجماليات القبح، فكان لهذه النظرية حضوراً في الكثير من أعمالهم الفلسفية والادبية والفنية. وهذا الرسام الهولندي “فان كوخ” يقول: (إنَّ للأشياء القبيحة خصوصية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة).
وإذا أردنا أن نخضع (جائحة كورونا)، متكئين على نظرية جماليات القبح، فأن هذه الجائحة تشكل تحدياً كبيراً للبشرية، وأزمة دولية، أمام عجز عالمي كبير وغير متوقع في محاربته للأوبئة، عندما ظنت البشرية بأن لها القدرة أن تنتصر، وأن تُهزم الأمراض والأوبئة. وإذا بها تقف عاجزة أمام هول ما تراه من عجز في مواجهة (فايروس) صغير مجهري، لا يرى إلا بأقوى المجاهر الإلكترونية، فايروس لا يعرف أي حدود جغرافية، ولا يميز بين دول عظمى وأخرى فقيرة، ولا بين الأعراق، ولا بين الأديان، ولا بين غني وفقير.
لقد كشفت جائحة كورونا هشاشة واقع الإنسان ومحدودية معرفته، وأوجدت واقعاً مؤلماً، تجاوزت تداعياته الآثار الصحية والاقتصادية، لتثير نقاشاً فكرياً حول منظومة القيم السائدة في العالم، ومؤشرة (أخفاق فلسفي في فهم ما تعنيه جائحة كورونا)، فهي (ليست “وعكة ثقافية”، ومناسبة “للتأمل الفلسفي”، بل هي تحدي وجودي خطير يواجه الإنسانية جمعاء).
أن جائحة كورونا خلقت عالماً جديداً في كل أبعاده وتصوراته وأنماطه الحياتية، لانها وضعت العالم أمام تحديات وأشكاليات روحية ونفسية، شكلت قلقاً وجودياً، وتهديداً للنظام العالمي الجديد المتمثل ب(العولمة) وألياتها الدولية.
نحن نعرف سلفاً أن العولمة نظام عابر للحدود والجنسيات والهويات القومية، تحيط به قوى مهيمنة على ألياته، أقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتقنياً. عمل هذا النظام على صياغة مجموعة من المكونات، شكلت إطاراً فكرياً وفلسفياً لثنائية (العولمة/المحلية أو الخصوصية).
أن الحضور المرعب ل(جائحة كورونا) شكل تهديداً حقيقياً ومباشراً للوجود الإنساني في كافة جوانب حياته، مهدداً بالأنهيار، أقتصاديات دول رأسمالية الكبرى، ذات إمكانات فائقة وعقول ومراكز بحوث ومختبرات ومستشفيات وغيرها. كاشفاً زيف النظام الصحي وضعف منظوماته في مواجهة الأزمات، واضعاً نهاية لأكذوبة النظام الصحي العالمي التي تتبجح به بلدان الغرب. لقد أطلق فايروس كورونا رصاصة الرحمة على النظام العالمي الجديد وعلى ألياته المعولمة، مما أحدث تغييراً في البنى الأقتصادية والأجتماعية والسياسية والنفسية والأخلاقية للمجتمعات العالمية، وإعاد النظر في رؤى هذه المجتمعات الفكرية والأيدلوجية. كما له تداعياته على الأتجاهات المادية والنزعات الإلحادية المنحرفة، وعجزها عن مواجهة الخالق، وقد عبر عن هذا العجز، رئيس وزراء إيطاليا “جوسيبي كونتي”، بعد أن شاهد الجثث تتساقط وتتراكم في شوارع بلاده، وعجز نظامه الصحي في أحتواء الأزمة، بقوله: (لقد أنتهت جميع الحلول على وجه الأرض .. الحل متروك للسماء). جاء هذا الأعلان بعد أن أغلقت بلدان أوروبا أبوابها، بوجه إيطاليا، فتولدت قناعة راسخة عند الإيطاليين أن التضامن والأنتماء الأوروبي المزعوم كان مجرد شعارات جوفاء ووهم لا وجود له في الحقيقة.
أما في الجانب الأخر من العالم يبرز عجزاً إنسانياً أمام كورونا، في ظل غياب تام لأمريكا – زعيمة النظام العالمي الجديد – عن المسرح الدولي وعدم لعب أي دور قيادي في مواجهة الوباء. وهي موطن العلوم الطبية الأكثر تقدماً ‏في العالم. فقد دعا الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب ” الأمريكيين إلى التوجه (للرب والصلاة) لحماية أمريكا من خطر فايروس كورونا. وكتب في تغريدة له على موقع “تويتر” أعلن فيها عن (يوماً وطنياً للصلاة) لحماية أمريكا ومنحها القوة لمواجهة فايروس كورونا، وقال: ( نتطلع إلى الرب للحماية والقوة في مثل هذه الأوقات). وتابع: (بغض النظر عن المكان الذي قد تكون فيه، أشجعك على الأتجاه للصلاة في فعل إيماني.. معاً، سوف ننتصر بسهولة).
أن السلوك الإنساني حتماً سوف يتغير، فعالم ما بعد كورونا لن يكون مثل ما قبله، سوف يشهد العالم عصراً جديداً يسمى (عصر ما بعد كورونا). وعليه، ينبغي أن ندرك أن مهما كان قبح فايروس كورونا، فأنه يخفي بعض الجمال، لأنه درس أبتلاء أو عقاب للإنسان، ليس فقط ليُعذب، وإنما ليُهذب، ويعود به إلى فطرته الأولى، انها الملجأ الوحيد له، وقد صدق من قال: (في كلّ جلالٍ جمالٌ، وفي كلّ محنةٍ لطفٌ ورحمةٌ).
أمام غطرست الإنسان وجبروته، جاءت الرسالة من أصغر كائن (فايروس)، ليبين للإنسان عجزه في حماية نفسه، وضعف قدرته أمام قدرة الله سبحانه وتعالى. فايروس جعل العالم يقف ضعيفاً، عاجزاً، مندهشاً، مذهولاً في مواجهته، محدثاً شللاً لحياة البشرية في كافة جوانبها. وفي ضوء هذه الرؤية، هل يمكن أعتبار فايروس كورونا عقاباً أو أبتلاءً إلهياً؟.
الإيمان نظام عقائدي، وحاجة نفسية للإنسان، للشعور بالأمان، فهو الإيمان بوجود قوى عظمى تسيطر على هذا الكون، وهذه رغبة غريزية، وملاذ آمن لدى الإنسان الباحث عن الخلاص والطمأنينة. وفي خضم هذا القلق المتزايد من فايروس كورونا، يمكن أن نفسر هذا البلاء على أنه قدراً محتوماً ورسالة إلهية ليتوقف الإنسان برهة من الزمن عن غيه، ويرى ما صنعت يداه.
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ﴾، التوبة/118.
هناك من يريد (أسلمة) الفايروس وجعله عقاباً يخص غير المسلمين، وكأن المسلمين في منئاً عنه، بل هو -فايروس- حطم غرور الإنسان وأظهر ضعفه ووهم شعوره بالقوة، وأدهش مراکز الأبحاث العلمية في كبرى المختبرات العالمية، محدثاً تخبطاً سياسياً وأقتصادياً ونفسياً وصحياً، كاشفاً بؤس النظام الصحي العالمي، مزعزعاً الكثير من القناعات الفكرية والعقائدية لدى الإنسان. فرغم كونه مرض قاتل ووباء أرتقى الى مستوى الجائحة، فأنها فرصة ذهبية أن يقف العالم بأسره، وقفة تأمل لوجوده ومصيره، أنه وخزة للعقل والضمير البشري ولكنها وخزة عظيمة في محتواها، على الإنسان أن يعي درسها، ويتوقف عن طغيانه وغطرسته وظلمه وغروره.
وعلى ضوء ذلك، رب تساؤل يطرح، هل يمكن أن نتصور شكل العالم ما بعد جائحة كورونا؟
لقد كتب الكثير من محللين عن جائحة كورونا وربطها بالعولمة، وتأثيراتها، وذهبوا في القول إن النظام العالمي في ظل جائحة كورونا يبدو هشاً، وأنها القشة التي ستقصم ظهر العولمة، وتكتب نهايتها. بعد أن غيرت المقومات الحياتية في العالم، ونهشت أسس نظام العولمة، وأعادت هيكلتها، التي حسبته البشرية أساساً متيناً عصياً على الأهتزاز، كاشفاً عن مدى هشاشته. لقد أحدثت جائحة كورونا تغييرات كونية حتمية، ووجهت ضربة موجعة إلى الاقتصاد العالمي، وهزت أركانه، وأغلقت أجواء وحدود بلدان العالم في مشهد دراماتيكي سريالي لا يمكن أن يتخيله أحد في زمن العولمة، فلم يعد العالم (قرية صغيرة) كما توقع “مارشال ماك لوهان”، وإذا العالم بين ليلة وضحاها تقطعت أوصاله، وأصبح عبارة عن جزر متباعدة ومتفرقة ومتنافرة ومنغلقة على نفسها. فلم تعد حدود الدول مفتوحة، بل أغلقت تماماً، وتهاوت الأسهم في البورصات، وتراجعت أرباح الشركات المتعددة الجنسية ووو. فقد أكد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، أن جائحة كورونا في العالم، (أظهرت نهاية عهد العولمة). أما الملياردير المجري الأمريكى “جورج سوروس” أكد (أن هناك شيئاً واحداً فقط مؤكداً بشأن عالم ما بعد الوباء: لا عودة إلى العولمة، فيما عدا ذلك كل شىء محتمل).
ومهما قيل عن فايروس كورونا كونه (صناعة بشرية) أو (رسالة إلهية)، فهو يبقى رد فعل إلهي على الخواء الروحي للإنسان وطغيانه المادي، وأنكاره البعد الغيبي في الحياة، وأعلان حداثته (موت الإله). خاصة الغرب فهو في حالة من أضطراب نفسي، وفراغ روحي، بعد أن أنهكه طغيان المادة، حتى بدأ يشعر بظمأ روحي، فليس الذي ينقص البشرية اليوم الرفاهية المادية والوفرة الإنتاجية، بل هو التوق إلى الرحمة والعدل الإلهي، وإلى الإيمان بالقرية الآمنة التي أشار القرآن الكريم إليها: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾، فكفروا بأنعم الله، كما عبّر عنهم القرآن:﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾. النحل/ 11.
حين يتأمل الإنسان كينونته، ويتساءل مع نفسه، من هو؟ من أين أتى؟ ولماذا خلق؟ وإلى أين مصيره؟ ومن يكون أمام قوة قاهرة تسخر أصغر مخلوق تجعله هباء منثوراً؟.
حتماً سوف يصل إلى إجابات مقنعة بعقله وقلبه وفطرته. لقد أحدث فايروس كورونا زلزالاً روحياً، هز به فطرة الانسان في أعماقه، بعدما تشبعت روحه بقضايا المادة، ومعارفه العقلية، تسبب في أحداث ضموراً روحياً له. فعلى العالم أن يتجه الى إعادة قراءة خارطة أفكاره العقلية، وتوجهاته الروحية وتنظيم افكاره الحداثوية، التي صحرت الجانب الروحي لديه. نعم أن جائحة كورونا ستترك آثاراً بعيدة المدى في سلوك ونمط التفكير البشري قبل غيرها من الآثار الأخرى.
أننا أمام هذه الأزمة الصحية بحاجة ماسة أن نؤمن، أن حلول السماء، آتية لا ريب في ذلك. (سُبْحانَكَ يا لا اِلـهَ إلاّ اَنْتَ الْغَوْثَ الْغَوْثَ)، لترفع عنا هذا البلاء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى