قصة

ثلاثية ميت لا زال ينتظر

د. هداية مُرزق

1- غفوة .
الجمعه الساعة الواحده ظهرا الآذان الثالث يعلن اقتراب الموعد ، بصبر كبير تحمل ضيق المكان.. وبروح رياضية استساغ صوت النائحين والضاحكين. جدته كانت تقول دائما أن الميت لا يخرج إلا إذا ضحك اهله، وقد أذن المؤذن بالخروج ، الطريق إلى العالم الآخر لا زال في بدايته المشيعون والمشيعات يتلذذون طعم اللحم ، “الطعام اللذيذ يدل على طيبة الميت” … كم كان أحمق وهو يجمع الدراهم في علبة كي يسعد بها قلوبا لا تعرف الرحمة … لا تنسوا شيئا وصية الميت لا بد أن تطبق بحذافيرها ردد اخوه … الكفن ، والشموع ، والحناء ، والقبر الضيق، وحتى الدموع والنحيب دفع ثمنها مسبقا …
كان يعلم انهم لن يكترثوا إلا إذا سمعوا صوت رنين المعدن … “ما يحك جلدك غير ظفرك ” .. لقد آن الأوان كي يستعمل اظافره التي ظلت مطوية طوال حياته ، لن يلتفت إليه أحد ولن يسارع الى نبش القبر الا الذئاب والضباع ، لعلهم ارحم وان كانوا يلهثون وراء جيفته، لن تمتلئ بطونهم من لحمي لأنني أعددت كل شيء ..


2- سور الدائرة…
في اليوم الثاني استدعى الأمر أن أرسم دائرة كبيرة حول جسدي كي لا تمر الديدان إليه، لست جاهزا للهضم قالها في سره، آخر قذيفة نزلت على بيتنا هزت كيانه لكنها لم تدمره، أشلاء الجثث على الجدران وتحت الركام تئن ، تتساقط دموع الطيور المهاجرة حزنا علينا رذاذا يحتضن أرواحنا الضائعة ، جحافل الديدان تحاول اكتساح سور الدائرة، يردها بصدى قلبه المكلوم مسجلا آخر ذكرياته في بيتهم العتيق: في الليالي الباردة نتحلق حول المائدة ، تقص علينا الجدة قصة (نص نصيص)، كنا نصدق كل كلمة وندخل أجواء الحكاية دون استئذان، نتجول مع النصف رجل ونتبعه وهو يصطاد الطائرات بحجارته الكلسية ، تهزنا الطائرات وتسرق أجواءنا ، تلطخ وجوهنا بالسواد وتغادرنا ونحن في ظلمة القبر… 
التصدي لديدان جائعة بطولة لم أعهدها في نفسي من قبل، الجمع الغفير انفض من حول بيتي الجديد وتركني لمصيري ، نقرات خفيفة على النافذة العلوية التي لم أرسمها سهوا على جدار الدائرة ، وجه غريب يقابلني مبتلعا كل ما في طريقه … متنحنحا أسأل عن الضيف الجديد، أبتسم مرتجفا ولساني يسبقني :
كأن العام ليس بعام حج ** تغيرت المواسم والشكول

3- ضيافة قصرية … 
بعد غفوة لا أدري كم استغرقت تذكرت أمرا؛ قال وهو ينفض الغبار عن عظام مهلهلة ، تفقّد عموده الفقري ، لم يصب بتلف بعد، فقراته ابتعدت بينما أصيب نخاعه بعطب، لا بأس لازال هناك امل بعد ان قضت الديدان على اللحم وغادرت ، صوت الانفجارات لا زال يهز المكان الآمن الوحيد الذي وجد فيه مجبرا، مسح عيونه المسمولة ، صرخ بينما يده ترتطم بحبل ، تحسسه بهدوء وشبح ابتسامة يهرب مذعورا ، القذيفة فتحت فجوة في المكان الهادئ، سائل لزج يزاور عن عظام وجهه ، يتجمد في كوة العينين ، بينما يده تمسح رأسا بضفيرة تعانق وجها صغيرا لقادم جديد … 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى