دراسات و مقالات

ثلاثية المسار السردي في القصة القصيرة ( وأقعقع له بالشنان )

عبدالرحمن الصوفي

– الاحتمالات المتحركة في المضمون ( ثلاثية المسار السردي )

1 – المسار السردي الأول ( السارد الناضج = الطفل ” المشاغب ” )

القص القصير فن أدبي منثور يسرد فيه الكاتب أحداثا معينة ، تجري بين شخصين أو عدد من الأشخاص ، يستند فيها القص على الوصف والتصوير ، مع التشويق ، حتى يصل الكاتب بالقارئ إلى نقطة تتأزم فيها الأحداث وتسمى ( العقدة ) ، فيتطلع معها القارئ إلى الحل الذي يأتي في النهاية ، ويشترط في القصة من الناحية الفنية أن تحتوي على ثلاثة عناصر ، أولها تمهيد للأحداث ، والثاني عقدة تتأزم عندها الأحداث ، ثم خاتمة ويكون فيها الحل . القصة القصيرة تصور جانبا واحدا من الحياة ، ويكون التركيز فيها إما على الحدث أو على الشخصية ، ولا يعنى فيها الكاتب بالتفاصيل وقد لا يلتزم بالبداية والنهاية ، وقد تدور أحداث القصة القصيرة على مشهد واحد ، أو حالة نفسية ما ، أو لمحة متخيلة ما …. يقول ” هشام صلاح في مقالة له عنوانها ” القارئ بين النص المفتوح والنص المغلق ”
: ” …. فالكاتب المميز يوحي ولا يصرح، يستفز ذوق وذائقة المتلقي وينتظر منه دائما رجع الصدى ليعكس إبداعه ،وفي بعض الأحيان يكون القارئ قادرا على تصحيح بعض التصورات والمفاهيم التي يعتمدها الكاتب ، فهو جدير بتوقيع شعرية النص، وأخص هنا النص المميز الذي يمتح من الرصيد الثقافي والمعرفي الإنساني ويغترف من ذاكرة الماضي والحاضر ، (في بعض مقالاتي قلت إن النص الإبداعي دافع من دوافع تنمية القدرات المعرفية للقارئ وتنمية مهارته في البحث والتنقيب ، لأن الذي لا يعرف أو لم يبحث في الرمز بالأسطورة ، أو الرمز بالتاريخ أو ماشابه ، لا يمكنه أن يقرأ نصا للسياب أو أدونيس ، والقاريء الذي لا يعرف التناص أو تقاطع النصوص لا يمكنه أبدا أن يقرأ (لإدكار ألان بو ) وهذه فقط أمثلة بسيطة ! ” . تبدأ أحداث القصة القصيرة ” وأقعقع له بالشنان ” ( من وحي شغب الطفولة ) بما يلي ”

( – أنا حمزة ، أنا الأمير ، أنا عاشق السيف والفرس، أنا السالب وردة العرب، وأنا مسلوبها، أليس كذلك يا صبيي٠٠٠ يا عمر٠٠٠ يا عيار؟
وألوح بعصاي في الفضاء، وأنا أمتطي عمودا كان دعامة بيتنا القديم، وأحلق كطائر مذعور في فراغ ممرات بستان الصبار الضيقة، دون أن أعير أشواكه المسننة اهتماما، وأتغنى بنتف من أشعار (مهردكار) ذات تحرش بفارس العرب٠…)

ركز ” جون بياجه ” على المكونات القاعدية لتمثيل الأشياء والخبرات لدى الطفل وقدرته على استدعاء واستحضار مخزونه المعرفي عند الضرورة . فطفل ” هشام صلاح ” استحضر سيرة ” الأمير حمزة البهلوان ” التي كان يستمع إليها المغاربة في مدنهم وأسواقهم وهي تروى على ألسنة الحكواتيين وخاصة قبيل امتلاك عامة الناس جهاز التلفاز ، أما حين دخل هذا الجهاز المنازل فقد أصبحت تستهويهم أفلام ” رعاة البقر ” التي أنتجتها هوليود ، وكانت تقدمها شاشة التلفزة المغربية خلال فترة السبعينات وبداية الثمانينات ، وأفلام أخرى تاريخية عربية مثل ” سيرة عنترة بن شداد العبسي ” وغيره ، كما كانت قاعات السينما في تلك الفترة تقدم أفلاما صينية عرفت متفرجيها بالتنين الصيني الأسطوري الذي يحتل مكانتة في وجدان وثقافة ونفسية الإنسان الصيني . فلاغرابة إذن أن يصير الطفل ” المشاغب ” ممثلا يقدم عرضه فيلبس الدور الذي يحتضنه .

2 – المسار السردي الثاني ( الطفل / سيرة ” الأمير حمزة البهلوان ) / التراث :

علامة التجنيس في كل الأجناس الأدبية ( قصة قصيرة ) ، لا تكتفي بتعويض الأشياء والإحالة عليها بناء على المواضعة ، بل تعمل على تحديد وجودها كذلك ، كما تفرض تحليل الجنس الأدبي ( القصة القصيرة ) بشمولية أكثر لأنها جزء من عملية عامة تشارك فيها مختلف المتغيرات التي بقتضيها كل حدث تواصلي ويتجلى ذلك في القصة القصيرة المعنونة ب ( وأقعقع له بالشنان / من وحي شغب الطفولة ) ، يمكن أن نمييز فيها بين وحدات متفاصلة تقوم بينها تقابلات دالة ( شغب الطفل / شغب الكتابة عند الرجل الناضج ) ، وبين ” القصة القصيرة ” عند صلاح هشام و ” وسيرة ” الأمير حمزة البهلوان ” السيرة الشعبية التي تعد من أشهر السير تماسكا وإحكاما تروي فصول دراما حرب طاحنة بين القومية الفارسية والقومية العربية ، بطلها حمزة العرب ، سيرة كانت تروى شفهيا على ألسن الحكواتين في الكثير من المدن المغربية وأسواقها …. ” أقعقع له بالشنان ” مثل عربي يرمز لممارسة طقسية محددة كما وردت عند الشاعر ” النابغة الذبياني ( كأنك من جمال بني قريش // يقعقع بين رجليه بشن ) ، وقال الحجاج : ” ما يقعكع لي بالشنان ” … الطفولة هي الفترة الزمنية من عمر الإنسان التي تبدأ بولادته وتمتد حتى رشده وهي ” مرحلة الارتكاز الأساسي في بناء الشخصية الإنسانية وأبعادها وأنماطها ” . طفل الكاتب ” هشام صلاح ” يتمتع بقدرة فائقة على التخيل الذي صارت انفعالاته فيه راغبة في التأر كرد للاعتبار للذات …

(…. لذلك كنت ترى جسدي النحيل- دوما – مطرزا بندوب تأبى أن تندمل، فعصا ذلك المعلم الأرعن تخضب بناني، وبلا انقطاع٠ ربما لأنه لم يكن يعرف عن حمزة شيئا، كالرحى يطحن ما أمر بتمريره إلى عقولنا الصغيرة، وكالببغاء يردد على مسامعنا إملاءاتهم الرعناء٠
في كل حصة، يرشحني- دون خجل – للرسوب، فيسخر مني أغبياؤه لأنهم من فصيلته، فهو الغبي بوزرة بيضاء مكوية، وهم بأقدام حافية متشققة، أسطوانته صدئة، لا يتوانى في ترديدها على مسمعي في كل لحظة وحين….) .

انفتاح القصة القصيرة على الذات هو دخول في إعادة الاعتبار للمنسي والمهش ، بوصفه تجربة قابلة للتأمل وفعلا راغبا في إعادة تشكيل وتشييد الكينونة واستجلاء أبعاد الذكريات العالقة في تجاويف الماضي … يقول ” هشام صلاح ” :

” ….فالكاتب المميز يوحي ولا يصرح، يستفز ذوق وذائقة المتلقي وينتظر منه دائما رجع الصدى ليعكس إبداعه ،وفي بعض الأحيان يكون القارئ قادرا على تصحيح بعض التصورات والمفاهيم التي يعتمدها الكاتب ، فهو جدير بتوقيع شعرية النص، وأخص هنا النص المميز الذي يمتح من الرصيد الثقافي والمعرفي الإنساني ويغترف من ذاكرة الماضي والحاضر ،(في بعض مقالاتي قلت إن النص الإبداعي دافع من دوافع تنمية القدرات المعرفية للقارئ وتنمية مهارته في البحث والتنقيب ، لأن الذي لا يعرف أو لم يبحث في الرمز بالأسطورة، أو الرمز بالتاريخ أو ماشابه ، لا يمكنه أن يقرأ نصا للسياب أو أدونيس ، والقاريء الذي لا يعرف التناص أو تقاطع النصوص لا يمكنه أبدا أن يقرأ (لإدكار ألان بو )وهذه فقط أمثلة بسيطة ! …” .

3 – المسار السردي الثالث : السارد / الثراث

دخول السارد إلى الذات الثقافية مختبرا المخزون الثقافية باعتبارها ٱلية ناظمة تساهم في استدعاء مختلف القيم الرمزية والتخيلية والتحليق والذي يساهم بدوره في الكتابة على مستوى الصور والرموز والإيحاءات البانية للذاكرة الجمعية الشعبية في البادية التي تدور فيها أحداث القصة القصيرة .

( …. فتنت بالفرس والفارس حد الجنون، ومن فروسيته أستلهم فروسيتي: سيفه عصاي، وفرسه عمودي، كيف لا ؟ وقد خبرت روائع سيرته الشعبية، أتقمص شخصيته، وهو يراقص مقبض سيفه البتار في قبضته الفولاذية، و يشرح جثث الأبطال شرائح لحم مقدد٠ وبين سطور أشعاره، أتلصص عليه، وهو يتغزل بمفاتن معشوقته الحسناء( مهردكار)التي اختارها ملكة قلبه دون بنت أسطون، وأنا أقتدي في ذلك بالظريف عمر العيار٠
لذلك كنت تراني-كل خميس أسود- أقرفص على قدمين متورمتين، فعشرات الجلدات لا تشفي غليل ذلك الأرعن المنحوس٠ أ أحفظ سيرة حمزة، وأتقن التلصص عليه في أشعار معشوقته، وأعجز عن حفظ عملية ضرب، أو قصيدة من اختيار تافه بذوق ذلك التافه؟ فماذا تساوي تفاهاته أمام تحليقي عقابا أو صقرا أو نسرا فوق جثث أبطال أشداء فتك بهم سيف حمزة العرب في ساحة الوغى؟ فهذا المنحوس المتعوس وكل مدرسته لا يساويان نتفة من أشعار بنت الأكابر (مهردكار)، أو طرافة من طرائف خفيف الظل عمر العيار …)

وهكذا يتضح أن العلامات داخل النص/ القصة القصيرة متوحدة في تشكيل العالم الصغير عند الطفل والعالم الشاسع عند الكاتب الذي تحمله ثقافة شعب مغربي وأمة عربية . ونشير إلى أن تقطيع العلامات للواقع ليس قارا وثابتا ، بل هو متغير ومتحول تبعا لتغير الحاجات العلمية والمعارف والقيم في كل ثقافة من الثقافات .
فالدال في ” وأقعقع له بالشنان ” من خلال علاقته بالمدلول ، هما متلازمان يمتلكان وجودا ماديا ملموسا ، ويدرك من خلال مجموعة من المثيرات اللمميزة في النص ، ويحيل على مرجع يخص الكاتب ، وهو السند المادي التي تقوم عليه العلامة في النص القصة القصيرة ل ” صلاح هشام ” . كما أن المرجع ( سيرة الأمير البهلوان وشخصياتها و رعاة البقر و عنترة العبسي ، والتعليم المغربي في فترة تاريخية …. ) يطلق على الأشياء التي تحيل عليها العلامات في التجربة الواقعية والمحتملة والمتخيلة . يمثل التخييل الوسيلة التي تتحدث بها القصة القصيرة عن الواقع ، فإذا كانت العلامة فيها تملك مدلولا ، وتحيل على مرجع ، فإنها لا تملك معنى إلا عبر التخيل ، الذي يكسبها دلالتها التي أدمجت في سياق الحكي ، الذي له وظيفة التخييل الذي قد يكون واقعا راهنا أم تاريخيا أم مجتمعيا أم خياليا …فيصبح التعدد الدلالي رسالة فنية ، وذلك ما استمتعنا به به ونحن نقرأ ل ” هشام صلاح ” ، قراءة دفعتنا للعودة للبحث في مراجع وكتب طالها الإهمال في زمن عزف الناس فيه عن القراءة .

إعتذار : أعتذر للقراء وللأديب ” صلاح هشام ” على تقديمنا دراسة مستقطعة ذرائعية بمدخل واحد للقصة القصيرة ، فلو درسناها بجميع المداخل لغطت صفحات ولاستخرجنا في كل مدخل لؤلؤا من بحر ” وأقعقع له بالشنان ” .
تحياتي واحترامي

عبدالرحمان الصوفي / المغرب

=====================================================================

وأقعقع له بالشنان: قصة قصيرة٠
بقلم : صالح هشام/ المغرب٠ ( من وحي شغب الطفولة )
– أنا حمزة ، أنا الأمير ، أنا عاشق السيف والفرس، أنا السالب وردة العرب، وأنا مسلوبها، أليس كذلك يا صبيي٠٠٠ يا عمر٠٠٠ يا عيار؟
وألوح بعصاي في الفضاء، وأنا أمتطي عمودا كان دعامة بيتنا القديم، وأحلق كطائر مذعور في فراغ ممرات بستان الصبار الضيقة، دون أن أعير أشواكه المسننة اهتماما، وأتغنى بنتف من أشعار (مهردكار) ذات تحرش بفارس العرب٠
فتنت بالفرس والفارس حد الجنون، ومن فروسيته أستلهم فروسيتي: سيفه عصاي، وفرسه عمودي، كيف لا ؟ وقد خبرت روائع سيرته الشعبية، أتقمص شخصيته، وهو يراقص مقبض سيفه البتار في قبضته الفولاذية، و يشرح جثث الأبطال شرائح لحم مقدد٠ وبين سطور أشعاره، أتلصص عليه، وهو يتغزل بمفاتن معشوقته الحسناء( مهردكار)التي اختارها ملكة قلبه دون بنت أسطون، وأنا أقتدي في ذلك بالظريف عمر العيار٠
لذلك كنت تراني-كل خميس أسود- أقرفص على قدمين متورمتين، فعشرات الجلدات لا تشفي غليل ذلك الأرعن المنحوس٠ أ أحفظ سيرة حمزة، وأتقن التلصص عليه في أشعار معشوقته، وأعجز عن حفظ عملية ضرب، أو قصيدة من اختيار تافه بذوق ذلك التافه؟ فماذا تساوي تفاهاته أمام تحليقي عقابا أو صقرا أو نسرا فوق جثث أبطال أشداء فتك بهم سيف حمزة العرب في ساحة الوغى؟ فهذا المنحوس المتعوس وكل مدرسته لا يساويان نتفة من أشعار بنت الأكابر (مهردكار)، أو طرافة من طرائف خفيف الظل عمر العيار٠
لذلك كنت ترى جسدي النحيل- دوما – مطرزا بندوب تأبى أن تندمل، فعصا ذلك المعلم الأرعن تخضب بناني، وبلا انقطاع٠ ربما لأنه لم يكن يعرف عن حمزة شيئا، كالرحى يطحن ما أمر بتمريره إلى عقولنا الصغيرة، وكالببغاء يردد على مسامعنا إملاءاتهم الرعناء٠
في كل حصة، يرشحني- دون خجل – للرسوب، فيسخر مني أغبياؤه لأنهم من فصيلته، فهو الغبي بوزرة بيضاء مكوية، وهم بأقدام حافية متشققة، أسطوانته صدئة، لا يتوانى في ترديدها على مسمعي في كل لحظة وحين:
– هذا العام، سيفقص بيضك يا خنزير البرك الموحلة، فوق ذلك الكرسي الذي تأكل منك مساميره الصدئة ٠
لكن، ها أنا -اليوم – أغرز أصابعي في عينيه الذابلتين، وأفند كل مزاعمه، وبفخر أرفع رأس أبي عاليا بين أقرانه، وأنتزع – قهرا- الزغرودة من أفواه متطفلات حينا٠ ها أنا- اليوم- أتوج رأس القائمة، وأخربش بأظافري حكمته الغبية المنقوشة على عصاه الغليظة ( العصا لمن عصا)، فأضمد جراحا باتت عميقة الغور في كل أنحاء جسدي النحيل٠
نجاح باهر لم أذق طعمه منذ سنتين، أعود منتشيا به، فألوح بعصاي وأجري كالمجنون في متاهات بستان الصبار كعادتي٠ يعود أبي هذا اليوم مبكرا من السوق، يجر حلمي وراءه، كيف لا وقد حققت له حلمه، وأخرست أفواه الجيران وسكان قريتنا؟
يعود يجر جحشا كوحش بري، لونه داكن، لكنه يميل إلى الرمادي، أشبه في قوامه الممشوق بأبجر عنترة العبسي، أو بفرس فارس بادية الحجاز، أرمقه بإعجاب كبير، ويخترقني بعينين واسعتين متوجستين٠ يشدني أبي من يدي، يضغط بعنف على معصمي، وبابتسامة عريضة لا تخلو من رضى يقول :
– خذه يا بطل، إنه لك، ومن هذا الجحش الجميل إلى حصان أدهم إن شاء الله٠
ودون أن أشكره أو ألتفت إليه، وبشغف كبير أحكم قبضتي على هذا الوحش البري، وأنا أتمتم كالأحمق:
– هذا حصاني، فأنا جدير به، وبالقوة انتزعته منك يا أبي، ومن ذلك المعلم المنحوس٠
أقاوم فرحة عارمة، لم يكن قلبي الصغير قادرا على استيعابها: أبي يفي بوعده، ويتوج فروسيتي بهذا الأشهب الأغن كما توجت رأسه بنجاحي٠ و أملي أن لا يكون جامحا جموحا عنيدا، وأن يكون مطواعا، لتكتمل فرحتي وتتحقق أحلامي٠
أدور حوله، أتفحصه جيدا، فأفتتن به، وأتقرب منه لأكسب ثقته، يلصق عينيه الكبيرتين بالأرض، ويضغط على ذيله بين فخذيه، ويبسط أذنيه خلف جمجمته المستطيلة كرأس تنين صيني، فأتوجس خوفا من ردة فعله، أقترب منه كثيرا، أتلمس فروته، أجدها حريرية ناعمة الملمس، فلا يبدي حراكا، أطمئن إليه، ويطمئن إلى رفقتي، وقبل أن أمتطيه تعن لي فكرة جهنمية خطيرة، لكنها غبية:
أن أضع بين فخذه شنانا، أربطه على ظهره، فقعقة الشنان تفزع قطعان الخراف، وهو لن يكون أصلب منها قلبا وأقوى عمودا، فعندما يتحرك الشنان يفزع المسكين ويرتعب، فتتحسن مردوديته عدوا وقفزا، ولم لا؟ فهو لا يقل أهمية عن فرس فارس العرب الذي كان أسرع منه البرق٠
علبة سردين قديمة أحشوها بحفنة حصيات، أعيد إغلاقها بإحكام، وألصقها ببطن جحشي بخيوط أمررها تحت بطنه ثم أشدها على ظهره، فيصبح بجاسوسي جاهزا للتحليق بي في متاهات حلمي الأبله:
كل حركة من حركاته تقعقع الشنان، يتحول – بقدرة قادر- طائرة بأربع محركات نفاثة، فيطوي البيد والبراري تحت سنابكه طيا٠
أبسمل، وبحذر شديد، أقفز كالمارد فوق ظهره الأملس بدون سرج ولا لجام، تتحرك الحصيات في قلب علبة السردين، يصاب المسكين بنوبة رعب شديدة، يرفع قائمتيه الأماميتين إلى أعلى حتى يستقيم واقفا ويعانق الفضاء، يقفز يمنة ويسرة، وينط كالهر في كل الاتجاهات، وأنا أتمسك بقوة بشعيرات عنقه التي لم تطل بعد٠
يدور حول نفسه كخذروف، كقط يريد قضم ذيله، فأمعن في شد شعيرات عنقه شدا كرعاة البقر، وفكرة سقوطي نحو الهاوية تتملكني، فيزداد قلبي انتفاخا٠
تزداد قعقة (الشنان) حدة، تتوتر أعصاب جحشي، فيبحث عن منفذ يخلصه من حملي الثقيل وغير المرغوب فيه، وأنا على ظهره أتأرجح، وأميل حيث يميل، لكني به عالق كالعلقة٠ ينفلت كالرصاصة الطائشة قاصدا أضيق ممرات بستان الصبار الكثيف، وبسرعته الجنونية كوميض البرق يسد أمامي كل أبواب النجاة بجلدي٠ يختار هذا الغبي / الذكي أضيق المسالك وأكثرها أشواكا، وفي نيته الحمارية: أن يلحق بجسمي أضرارا جسيمة٠
أشعر بوخز الأشواك في جنباتي كالإبر أو لسعات العقارب، أرخي- مضطرا – شعيراته، علي أخلص نفسي من هذه النار الحمراء، فتتلقفني الأرض دودة بلا حراك، مغشيا علي، يتبخر حلمي بين الأشواك، وينتقم مني جحشي شر انتقام، و تبتلعه كالشبح كثافة بستان الصبار ، وهو يعدو ٠٠٠يعدو ٠٠٠ فارا بجلده كفأر مذعور٠
تنزل الأصوات على مسمعي نشازا ثقيلة، تبدو بعيدة جدا كتردد الصدى في قاع بئر عميق ، لكني بعد مشقة وجهد كبير أميز منها صوتا، أظنه مألوفا: إنه صوت أمي، ترغي وتزبد وتولول، وهي منهمكة في استئصال تلك الإبر من جسدي، أحبس- على مضض- أنفاسي لاجتناب صفعاتها الغاضبة، وكل شوكة تنتزعها من جسدي النحيل بأنات مكتومة، وتأوهات آلام حادة لا تطاق٠
وفي أوج غضبها، تكيل لأبي الشتائم بعدما انسحب من هذا المشهد المأساوي، وهو يغالب دموع ضحكاته الهستيرية، ويحبط الأرض بحذائه الثقيل٠ تنفض أمي يديها مني، وتتركني أتجرع مرارة آلامي وحدي، وهي تردد على مسمعي بغضب شديد :
– لأنزع كل هذه الأشواك من جسدك العفن، أحتاج إلى أكثر من جلسة يا فارس الزمان، يا حمزة، يا بهلوان٠

——————————————————————————————————————————

Image may contain: 1 person
Image may contain: 4 people, people sitting

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى