دراسات و مقالات

تحليل نقدي لقصيدة ( سقراط يموت واقفا ) للشاعر”عبد الجبارالفياض “

باسم الفضلي العراقي

 

 

تناص العتبات العنوانية داخلياً / سيميائية النص القناع }
………………..- دراسة تحليلية – …………..
في نص”سقراطُ يموتُ واقفاً !” للشاعر”عبد الجبارالفياض ”

 

النص
*****
يبابٌ
يرقبُ غيمةً في ساعةِ طَلْق . . .
أقزامٌ
يقتسمون هواءَ المدينة . . .
تموجُ بما لم تألفْهُ من قبلُ أروقةُ المشائين . . .
من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟
يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء . . .
قيّدوه . . .
إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة . . .
يُفسدُ علينا ما نحنُ فيه . . .
لا تدَعوا لهُ قدَماً في مجلس
فانفاسُهُ غيرُ الأنفاس . . .
إنَّهُ ينتصرُ لدمامتِه
بخرقِ ما نراهُ جمالاً !
. . . . .
قُضاةَ القصر
بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة
يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة !
حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء . . .
مالكم
علقتُم الكلمةَ من ثدييْها
حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء !
كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ
تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء . . .
خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها
لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون . . .
تبّاً لعصرٍ
يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه . . .
. . . . .
لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة
اصطحبَهُ بثباتِ قِممٍ
يرتقيها
لكنَّهُ
يظلُّ بجوارِها مملوكاً . . .
يَسرُّهُ :
لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ . . .
بئسكَ أنْ تُسكبَ سُمّاً في قعبٍ من فخار . . .
أغلقَ عينيْه . . .
القابعون فوقَ التّل
ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل . . .
ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً
ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت
يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !
صرخةُ الأمواتِ
تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط !
. . . . .
السُّمُّ
يرسمُ لوحةً مفتوحةَ الأبعادِ
تُرى بعينِ كُلِّ العصور . . .
ليسَ كوجهِ أثينا وجهٌ
تغادرُهُ كُلُّ الألوان جليداً أسود . . .
رجعتِ الشّمسُ إلى بيتِها بحفنةٍ من حزن . . .
كيفَ يُقشطُ ندمٌ تخثّرَ في حنايا مُعتمة ؟
لاتَ حينَ نَدم
فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً
هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان !
………………………
الدراسة
*******
لما كنت لااقول بانغلاقية النص ، او موت مؤلفه بعد فراغه من كتابته ، فقد انسقت وراء مابعثته في ذاكرتي بنية عتبة هذا النص العنوانية ( سقراط يموت واقفاً ) الموحية بإنسانية الثيمة ، من تداعيات قرائية لبعض آثار الكاتب الشعرية التي اطلعت عليها فإذاي اخلص الى انه قام بتناص داخلي ، بين هذه العتبة ، وعتبة اخرى موازية لها تركيبياً ودلالياً بعنوان ( السياب يموت غدا ) تعود لنص مخصوص الثيمة ، كان الشاعر قد كتبه سابقاً ، لتتشكل من هذا التناص ملامح نص غائب يشي بالمقاصد الحقيقية التي يضمرها ذلك النص السقراطي ،الذي سنشتغل على التعرف عليه في نهاية دراستنا ، ويتمظهر هذا التوازي العتباتي سيميائياً في عدة مستويات هي :
1 – مستوى البنية التركيبية لجملتيهما المتوازيتين فيما يلي :
– تماثلهما في الثبوت والديمومة والاستقرار، فكلتاهما اسميتان .
– تشابه عناصر بناء الجملتين في سياقهما التعبيري ، عددياً / ثلاث اشارات ، تسلسلياً و تراتيبياً / تجاورياً ( اشغالها ذات الموقع في الجملة ) ، وكما في هذه المقاربة الاسنادية لهما :
اشارة اسمية مسند اليها ( سقراط / السياب ) + اشارة فعلية مسند / يموت + الاشارة ( واقفاً / غداً ) اشارة قيدية تركيبية ( القيود : اشارات تحدد معنى الجملة ) مع وجود ( استبدال ) هنا .
– تماثل البنية الصوتية للاشارتين البؤرويتين ( سقراط / السياب ) ، على مستوى الوزن الايقاعي ، واصوات حروفهما الداخلية ، كما يلي :
– وزنهما الايقاعي :
سقراطُ / سيّابُ ( بعد حذف ” ال” التعريف كونها مزيدة ) :
كتابتهما عروضياً : سُقْرَاطُو / سَيْيَابُو ( فك التشديد )
تقطيعهما : متحرك / ساكن / متحرك / ساكن / متحرك / ساكن
الوزن : مفعولن
– اصوات حروفهما الداخلية :
سقراط ………: مهموس / مجهور / مجهور / مد / مجهور
سيّاب / سيياب : مهموس / مجهور / مجهور / مد / مجهور
2 – مستوى البنيتين النحوية والزمانية :
تطابقت الاشارتان البؤرويتان ( سقراط / السياب ) في نوع التعريف / اسمان علمان ، والموقع الاعرابي / كلاهما مبتدأ مرفوع ، خبرهما ذات الجملة الفعلية / يموت ، و مضارعية الفعل دلالة على استمرارية اثره في الوقت الحاضر مع انفتاحه على المستقبل .
3 – مستوى البنيتين الصرفية و الدلالية :
– سقراط : في سياقها المقامي / تاريخ الفلسفة :
بتكثيف رمزية الاشارة سقراط الفكرية و اشتغالاته الفلسفية : معارض لحكومة الطغاة والنبلاء الاثينية ( نسبة الى اثينا ) وديمقراطيتها المنحرفة ، بثوريته الهادفة الى تحرير العقل من الجهل و هيمنة الفكر اللاهوتي الغيبي ، فهما عنده سبب الاثام والرذائل ، وان الحقيقة وتحقيق العدالة والفضيلة انما تكون بالمعرفة والتخلي عن ماقبليات الاعراف والتقاليد البالية ، وكان ( الجدل ) سلاحه المبتكر والناجع في ميادين حواراته مع خصومه وحلقات دروسه يهد ويبني به الافكار والمعتقدات الجمعية ، حتى صار اكبر خطر يهدد شمولية عرش السلطة الحاكمة ، ومن تحالف معها من نبلاء ورجال دين ، فاتهمته بالهرطقة وافساد عقول الشباب والسخرية من قدسية الالهة فحكمت عليه بالاعدام بتناول السم ،
– الاشارة يموت : دالة فعلية ، مخادعة مضللة في حقيقة داليتها ، فحقيقة البنية الصرفية لفعلها الثلاثي المجرد مبنية للمجهول: مِيتَ ، لا مبنية للمعلوم / مات ،لأنه من الافعال المبنية لغير فاعل (على غرار : أُغميَ عليه ، جُنَّ ، وُلِدَ ، أُعدِم ..الخ ) ، وهذا يعني ان هناك فاعلاً حقيقياً متوارياً هو من يقررالموت ويقدّره على ( اخر ظاهر) في الجملة ظهوراً مجازياً ،فحين نقول مات فلانُ بالسيف : ففاعل وعلة الاماتة الحقيقي هنا هو السيف الذي سلب حياة ( فلان ) الذي توهمنا الفاعلية فيه لوروده مرفوعاً بعد الفعل ( مات ) ، واسناد فعل الموت الى مسند اليه متوهّم ماهو الا تساند غير حقيقي تآلفه الناس لكثرة استعماله ، وهذا الفاعل المتوارى ، اما ان يكون عاقلاً ( شخص ما / .الآمر بالإماتة ) ، اوغيرعاقل ( مرض ، حادث..الخ ) ، فما من كائن حي يملك ان يتحكم بفعل ( الموت ) تقديراً او تقريراً ، الا بأن يخرجه من لزوميته ، وتعديته بإحدى الصيغ الصرفية المعروفة كالهمزة الاولية ، فنقول مثلاً : أماتَ الجفافُ الزرعَ ، يُميتُ ) وهنا لابد ان تغدو جملة العنوان/ سقراط يُميتُ نفسَه واقفا ) وفي هذه الصياغة ضعف حبكة ، فإماتة النفس / كمدلول ، يدل عليه معجمياً الدال / انتحر ، فتكون الصياغة اللغوية الانسب / سقراط ينتحر واقفاً ، لكن استخدام الشاعر لصيغة المبني للمعلوم ( يموت ) عنوانيا ، انما كان بقصدية الايحاء ان سقراط هو من قدّر الموت على نفسه بشمم ( واقفاً ) حيث قام الشاعر هنا بالتناص مع قصدية واقعة الموت السقراطي ( تناول سقراط السم المميت ، رغم مااتاحه له طلابه وانصاره من اسباب الهروب من سجنه ، قاصداً تأكيد على ان الافكار السامية تستحق الاستشهاد دونها ) .
اما عتبة عنوان النص المتناص معه ( السياب يموت غداً ) : فهي ذات اشارات متعارضة ظاهرياً ، فالسياب كدال ، اشارة لها مدلولان :
ـ إحدهما لغوي : لقب انسان ( بدرشاكر)، دميم قبيح الخلقة ، مات بايولوجياً ( غياب نهائي لوظائفه الجسمانية ) ، و غادر الحياة ( الغياب الجسدي ) ، منذ اكثرمن خمسة عقود خلت ، والاشارة الظرفية المستقبلية ( غداً ) تتعارض مع هذا المعنى زمانياً .
ـ والآخرسياقي المقام : شاعرمبدع مجدد ( احدث ثورة ادبية بابتكاره الشعرالحر ) متعارض مع طغاة الحكام ، له رمزية و قيمة انسانية عابرة للزمن ( شاعر رساليّ متجدد الحضور ) ، وبالتالي تخرج الإشارة ( يموت ) ، من دلالتها التوقُّفية بايولوجياً للاجهزة العضوية للكائن الحي ، وانتهاء زمنه المعاش ) ، الى رمزيتها الايحائية التصوُّرية ( الموت المعنوي / تغييب / محو الأثر ) ، وهو هنا موت مؤجل بدلالة ( غداً ) ، إيماءة إيحائية ، بوجود إرادةٍ ما قضت بإنقبار وإمّحاء اثار الرمزية السيابية ، كقيمة ( إنساشاعرية ) وطنية ميتا زمانية ، من الذاكرة والحياة
( الثقافكرية) العراقية ، وهي إرادة ( اخر ) نافذ القرار سلطوياً ( فهو وحده من يقرر مصائر الآخرين ) و مؤدلجاً ظلامياً ( بدلالة قراره الإفنائي لآثار تلك الرمزية التحررية التنويرية ) ، شمولياً ( لأنه لايتقبل نقيضه وجودياً ) .
بذا يتحقق التوازي بين الاشارتين ( يموت ) في العنوانين المذكورين ، في تقابل ارادة ( الانا ) السقراطية ، وارادة الآخر ( الهو ) المار ذكره ، كما ان كلتي الاشارتين متعارضتا الدلالة :
دلالة الاولى / موت جسدي
والثانية / موت معنوي.
بذا فان التوازي ( السُّقْراسيابي ) على المستوى المعنوي المقامي يتمظهر كفكر حر انساني الثورة / خلق الحياة ، مقابل قداسة سلطة شمولية مؤدلجة / وأد الحياة.
والمقاربة التأويلية لهذا التقابل :
الموت ( السقراسيابي ) محض وهم يشيعه اعداء الانسان لسلبه ارادته بالتحرر من نير فكرهم الظلامي
فمن يصنع الحياة يُخلد في الذاكرة الانسانية ، على الضد ممن يئدونها ويفرغونها من معناها ، فستُمحى آثارهم من صفحات الزمن خلا السوداء منها ، ويطويهم النسيان .
نخلص من تحليلنا لمستويات التوازي بين العتبتين اعلاه ، الذي قارب الثماثل بين مركبات بنيتي جملتيهما ان يكون تطابقاً ، ان الشاعر تقصد التناص بينهما ، ليبعث رسالة خفية مفادها ان النص الحقيقي مغيًَّبٌ تحت سطح النص السقراطي (القناع ) ، كآلية ( اتقائية ) وقائية تصيب بعمى الالوان عيون الرقيب السلطوي المتلصصة على ما بين سطور كل اثر مكتوب ، فتلقي القبض على كل حرف او اشارة تشم فيهما رائحة تمرد او تتوهم تلميحاً بانتقادٍ او مسٍّ بجلال المؤسسة الحاكمة ، مما سيعود عليه ( اي كاتب النص المارق ) بعظيم الأذى وفادح الخسران .
ولما كان متن النص يفسر ويوضح دلالات العتبة العنوانية ويجيب عمّا تثيره من اسئلة كما يذهب (علم العنونة ) ، لذا فإن التناص بين عتبتي النصين المذكورين ، سيكون له تماثلاته المعنوية في الفضاء التعبيري بلْهَ ثيمة النص السقراطي ، حتى ليصح دلالياً تأويل اشاراته المحورية وثيمة مقاطعه ، بما يتسق مكزمانيا مع الهم السيابي/ العراقي الذي مازال مستمراً حتى اليوم ، ًذلك الهم الذي بسببه يسعى (الآخر المؤسساتي ) الذي عدَّه خطراً محدقاً بشمولية سلطته ، الى قتل / إماتة ، آثاره في الذات العراقية الواعية ً، وهذه التماثلات والتأويل هما ما انتجا النص الغائب ، الذي ضمنه الشاعر حقيقة فكرته السيابية ( رمزية الهم الوطني في الذات الواعية النازعة للثورة ) بعد ان كساه جلباباً سقراطياً تحاشياً للرقيب كما اسلفت ويتجلى هذا التماثل ( لن اشير للمقاطع السقراطية التلازم دلالياً فهي ذات قصدية قِناعية حسب) في الاشارات والثِّيَم المقطعية التالية :
– الدميم / ( من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟ ) : الدمامة صفة خَلقية ( سُقراسيابية ) مشتركة بينهما / توازٍ شكلي متماثل
– الثورة السقراطية على الجهل ( يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء ) ، واثارة وعي الناس وحملهم على كسر جمودية التفكير( إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة ) و التمرد على قديم الاحكام والقياسات الفكرية والجمالية (بخرقِ ما نراهُ جمالاً ! ) ، من خلال اتيانه ( بالجدل ) كآلية هد وبناء للافكار ، توازي الثورية السيابية في يسارية معارضته للحكم الشمولي ، و ثورته الشعرية على قيود العروض و اعلانه ولادة الشعر الحر.
– تماثل ثيم المقاطع السقراطية وقهرية الاخر المقابل لرمزية الهم السيابي :
أ- عصمة الجور :
( قضاةَ القصر
بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة
يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة !
حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء . . ).
ب – تغييب الوعي بإسم المقدس :
( مالكم
علقتُم الكلمةَ من ثدييْها
حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء !
كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ
تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء . . .)
ت – افناء الضديد :
( خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها
لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون . . .
تبّاً لعصرٍ
يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه . . .
. . . . .
ث – خلود الفكر الثوري :
( لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة
.ً……
…………….
يَسرُّهُ :
لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ . . .
……….
…………..

القابعون فوقَ التّل
ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل . . .
ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً
ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت
يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !
صرخةُ الأمواتِ
تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط ! )
. . . . .
جـ – جريمة المقابل للفكر الحر بحق رموزه لن يمحوها الزمن :
( لاتَ حينَ نَدم
فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً
هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان ! )
_ باسم الفضلي العراقي _

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى