قصة

بِكَـــمْ

أحمد عثمان

وجاء اليوم العصيب الذي خشينا منه عليه .. حكايته تعلمها الجيرة، وجيرة الجيرة من حولنا ..
مهزومًا، كسيرًا جاء يجُرُّالخُطَى نحو مجلسه في ظِلِّ “التوتة” التي اعتاد أن يرْكَنْ إلى جذعها الحميم بجوار مجرى الترعة ..يجلس حيث موضعه الذي يألف .. يميل بمؤخر رأسه للوراء؛ شاخصًا عينيه صوب السماء، ثم يُطلقُ زفرةً حارةً .. يلوذ بسلوته، فيستلُّ قصبته من تحت جناحه، ينفخ فيها من روحه المحزونة؛ فتبوح بأنَّات صبابته شجنًا حارقًا يتفطَّر له قلبي ألمًا وشفقة ..أهتف بيني وبين نفسي:
ــ ويحك يا ابن العم .. كفاك نزيفًا أيها المسكين
من البعيد خلفي تأتي أغاني الفرح والإيقاعات الراقصة؛ تسري عبر المكبر، تحملها أجنحة هواء الأصيل، تقطعها الزغاريد بين الفينة والأخرى ..
يُلوِّنُ الأحمرُ قرصَ الشمسِ؛ فينعكس احمراره على الأرض وقُبة السماء، وهي تتوارى رويدًا رويدًا خلف حقول الأذرة الممتدة التي تحجب وراءها القرية إلا من سامقاتها ..
في تزامن مع الغروب ـ وكأنهما أبرما اتفاقًا ـ تُدوِّي الأعيرة النارية في الهواء ابتهاجًا؛ مُعْلنةً انتهاء مراسم القِران، وبداية الزِفاف، تصاحبه إيقاعات الطبول وزميرالمزامير..
يزداد دويُّ الطلقات صخبًا، تخالطه زغاريد النسوة وأهازيج البنات ..
في تمازُجٍ محمومٍ؛ تلهث ـ من أسفل الشجرة ـ أنفاسُ الناي المَوْجوع .. تتقطَّع، ثم تتخافت متحشرجة؛ حتى يلفظ آخرها .. تعتصر يده القصبة؛ فتتهشِّمُ بين أصابعه في نوبة غياب ..
تصمت الأعيرة .. تتعالى ـ في إثْرها ـ نقراتُ الدفوف .. تتوالَى عنيفةً؛ كأنَّما تلبَّستها الجِنَّة ..
نحيبٌ حارٌ، وآهاتٌ مكلومةٌ تقطعه ـ تكاد تزهق معها روح الفتى ـ يشتدا كلما اشتدت دقات المزاهر، ويتلاحقا كلما تسارعت ..
صيحة مذبوحة ـ تندُّ عنه ـ تهتك أستار المساء، يتردد صداها في الفضاء المترامي:
ــ ليلى .. إلى أين ألقى بك أبوك؟
صمتٌ جليلٌ يُهيمنُ على الموجوداتِ، ويتمدد .. إلا من أنَّات نايٍ تأتي من بعيدٍ مجهول

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى