شعر

بين شعر الومضة و الإبيجراما و الهايكو .

السعيد عبد العاطي مبارك – الفايد 

«الرجل الذي شاركني السكن/ لا يغلق الأبواب عند الخروج/ سألته.. أجاب: إنك ابن هذه المدينة/ أما أنا، فموطني الحقول/ وبابي السحاب ».
« قصيدة الأبواب – الشاعر د. كمال نشأت ».
——–
في البداية الحديث عن شكل القصيدة و حركة نموها و تطورها عبر العصور من خلال فن النظم و البناء الفني حتي وصلت الينا في أشكال عدة و مسميات كثيرة منذ القصيدة العمودية و المقطوعات و التفعيلي الحر و القصيدة القصيرة ” الومضة ” و التي لها نظير في الشعر الغربي كالابيجراما و الهايكو … 
و ما يسمي بقصيدة النثر و الخواطر الأخري في تباين و خصائص تحكم البناء الفني في اطار مقومات فنية موروثة مع التجديد الملاءم لروح الحداثة . 
و قد طفت كل هذه الأشكال للقصيدة العربية علي الساحة الأدبية و امتد و توهج ظلالها مما جعلت الكثير يتباري في كتابتها كمسلمات لروح التجديد و الحداثة مع النمو و التطور الطبيعي لصدي الحياة الحديثة بكافة المقومات … 
و من هنا كان حديثي حول الشعر مفهوم الشعر و تتبع حركة خريطة بناء القصيدة بأشكالها و ألوانها التي نكتبها و نطالعها شكلا و مضمونا في شتي و سائل الاعلام المتنوعية يوميا تعبيرا عن الواقع في ثوب تأملي فلسفي جمالي جدلي موجز مكثف الفكرة و العاطفة و طلقة موسيقية تقرع الأذهان من أول وهلة كنقطة أنطلاق مرورية تعبيرية تصويرة لموقف و مشهد ما . 
و من ثم نطوف مع تلك المصطلحات نلقي الضوء حولها في عجالة لهذا الفن الجميل المنشود ( الشــــــــعر !! ) و ماهياته الأصيلة و النتائج الطبيعية التي تمخضت عن هذا المولود الأول بروح تقبل عملية التكاثر و التجديد هكذا . 
ولابد أن نعرف كل نوع من تلك المسميات ، و التي ربما لا تختلف في جوهرها فالهدف و القصد واحد و نفصل بينهم و بين الخاطرة النثرية التي ليس لها خصائص الشعر .

و جدير بنا أن نركز علي عملية الابداع الفني التلقائي ، مع المتابعة الدقيقة لملامحها ، و خط سير القصيدة القصيرة المكثفة التي تحمل تجربة ودلالات صادقة بين الأحلام و الهموم مع الحياة اليومية . 
و ربما في شكل تهكمي ساخر بعيدا عن حالة ” الغموض المذري الطلسم ” 
فهناك فرق بين الغموض الفني الذي نقصده و ننشد جماله ، وبين الغموض الملغز الذي لا يفضي إلى شيء، بل يقود إلى ألا عيب لغوية جوفاء لا يساندها تحقق المعنى، ولا تدعمها روح الشعر وأصالة الموهبة، هذا هو الغموض الذي لا يقره مبدعا أو ناقدا منصفا بل يرفضه المجتمع بعد أن غرقت الآداب في مستنقع الغموض و الرمزية المعقدة بل أطلق عليها ” الصفرية ” محاولات الشتات . 
و من ثم نجد أن حركة الحداثة والدعوة هنا الي غير الذوق العربي يائسة و بائسة و لم لا فكل هذا دخيل من بيئات غير بيئتنا العربية الشاعرة بالفطرة مع معايير و مقاييس تنظمها و تحمها بعد أن نالت منها المدارس و المذاهب الفنية غير الخصبة مجرد سفسطائية ورنين و انبهار بمصطلحات تعج بالدوران في متاهات متتالية لم تضيف قيمة الي أدبنا و شعرنا منذ صيحتها حتي اليوم . 
و مازال يتبناها أجيال ينخرطون في اللامعقول بلا حدود حالة اغراق كلام مكرر معاد فاقد للغة و البلاغة و الموسيقي و الذوق العربي الأصيل لفن الشعر الغنائي بأغراضة الموروثة و المتجددة معا . 
فالحداثة الفنية و الجمالية ليست عيبا أو بدعا طالما حلقات مكملة في اعتقادي المتواضع .

و اليك عزيزي القاريء الكريم بعض و أهم أشــــــكال القصيدة الشـــــعرية :

= شكل القصيدة الموروثة الأولي : 
نعم أن القصيدة العربية تحتفي بالبناء و النسيج العضوي كوحدة واحدة وموضوع واحد ذات غرض محدد . 
مع الشكل الهرمي المطول و الملحمي منذ المعلقات ثم المقطوعات و القصيدة الومضة القصيرة .
و القصيدة تتألف من موضوعات وفقرات وأبيات، و الباحثون يحاولون النظر في هذه الصورة بالحديث عن التدّرج والتساوق والتناسب والتكامل العضوي واستيفاء القطعة من الشعر، و نري أن التباين و اللغة و الصورة و الموسيقي يبقي تزين المنطق و الاحاسيس في اطار الانشاد الغنائي لفن الشعر الجميل . 
و يحطيء من يظن أن الشاعر الجاهلي لم يكن أمامه أيُّ اختيار فيما يخص النظامَ الموسيقي للقصيدة العربية، أو في اختيار موضوعاته، وأسلوب معالجتها، ولم يكن يجرؤ من ثم على الخروج على شيء من ذلك، وإن عاد فاستثنى بعض الحالات من هذه “التقاليد الجامدة” فهذا بهتانا عظيما و بخس حق الشعر و الشاعر العربي في التجديد و التطوير ….

فقد وجدت ” القصائد الجاهلية القصيرة ” ، و التي كانت تقوم على نظام الموضوع الواحد لا تعرف غيره،

و من ثم نلاحظ كثير من قصائد الشعر الجاهلي لم تكن تقوم كلها على نظام تعدد الموضوعات كما يظن خطأً بعض الباحثين .

و ثمة بعض عدة محاولات قديمة جددت في الشكل و المضمون و الغرض حسب الواقع المفروض و الخروج من عباءة الاطلال و الديار و المحبوبة الي أوسع ، أو تحديد موضوع واحد مكثف . 
كما نلاحظ و نري في دواوينِ بشّار بن برد وأبي العتاهية والمعرّي مقطّعات بينَ البيت وخمسة أبيات، وهذا كثيرٌ أيضاً في دواوين بعض الشعراء العرب في العصر الحديث ومنهُم محمود سامي البارودي والرباعيات في شعر عمر الخيام التي ترجمت إلى اللّغة العربية غير مرّة شعراً ونثراً.

و إنّ قصيدة الومضة هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفُهُ في الشعر العربي القديم مِن المقطّعات، ذلك الشكل من الصياغة الشعريّة الذي عرفتهُ العربُ منذ نشأة الشعر عندهم.

و أنّ هذا النوع من الشعر مجرّد ردّ فعل على متغيرات سياسية أو اجتماعية و ثقافية … الخ . 
و من ثم لم يأتِ الشعر الحُرّ وشعرُ التفعيلة كما يسمّى أحياناً مِن فراغ، لم يكن مجرّد ردّ فعل على متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية شهدتها حقبة الأربعِينات مِن القرن العشرين، بعيدا عن التأثر فتطور و تجديد طبيعي موجود في بيئة العرب الخصيبة و ليس كل شيء نقول عليه مستورد و نلغي فكرنا و حركتنا مع نمو و تطور الحياة في اطار الحداثة غير المرفوض كرافد متواصل بين القديم و المعاصر دائما .
ثم ظهرت حركة «الشعر المنثور» على يد أمين الريحاني، سنة (1910م) و«النثر الشعري» على يد جبران خليل جبران ابتداءً من كتابه «دمعة وابتسامة» سنة 1914 واستمرت في كتابات آخرين من امثال مصطفي صادق الرافعي، أورخان ميسر، حسين مردان، وغيرهم. حتى ظهرت قصيدة النثر عام 1954، متأثرة بالآداب الأجنبية والموروث الشعري. شهدت قصيدة النثر تحولات فنية وفكرية، تتوافق والتحول الفكري والحضاري للعالم المعاصر، حيث مال كتاب قصيدة النثر إلى اللجوء إلى التوقيعات والومضات الشعريّة الخاطفة التي كانت نصاً مكثفاً يميل إلى الإدهاش والمفارقة.

فالقصيدة الومضة معروفة في الثقافات المختلفة، فهناك على سبيل المثال قصيدة «الهايكو» في الأدب الياباني و قصيدة الإبيجراما في الأدب الانجليزي ، و هلم جرا . 
وهناك أسماء أخرى لهذا النوع منَ الشعر كالقصيدة المضغوطة، القصيدة الكتلة والمركزة والمكثفة لأنّها في غاية الايجاز وقصيدة الدّفقة كأنّها تتدفّق مِن باطنِ الشاعر دفقةً وتنقشُ على ورقة بالقلم. وقصيدة الفقرة لأنّها لا تتجاوز مِن فقرة واحدة كفقرة نثرية. وقصيدة اللّمحة لأنّها تلمحُ على ذهن الشاعر وقصيدة المفارقة لأنّها تفارقُ القصائد المعتادة. وقصيدة الأسئلة لأنّها في جواب سؤالٍ أو أسئلةٍ أو نفسُها سؤالٌ أو أسئلةٌ. وقصيدة القصّ الشعريّ كأنّها اقتصّت مِن قصيدة طويلة. وقصيدة تأملية لأنّها نتيجُة تأمّل الشاعر في مظاهر الكائناتِ والأنفُس. والقصيدة اللّافتة لأنّها كلافتة رُسمَت بريشة فنّانٍ يقال لهُ شاعر. والقصيدة اللاقطة كأنَّ الشاعرَ يلتقطُها بينَ أفكارٍ مختلفةٍ و الي ما غير ذلك من أسماء و مسميات في النهاية و من البديهي أنها تدور حول فكرة القصيدة القصيرة و الجوهر و الهدف واحد .
= قصيدة الومضة – القصيدة القصيرة : 
والومضة لغةً من «وَمضَ» وومضَ البرقُ: لمع خفيفاً، وأومَضَتِ المرأةُ: سارقتِ النّظر، وأومضَ فلانٌ: أشار إشارة خفية. وفي هذا المعنى شيءٌ مِن اللّمعان والتلالُؤ والتألُق والإشراق والتوهُّج وفيه شيءٌ من الإدهاش والتشويق وفيه شيءٌ آخر من الشفافية والغموض الآسر وعدم الايضاح لكلّ شيءٍ.
وفيه شيءٌ آخر مِن التكثيف والاختزال والاقتصاد اللّغويّ. 
وقد قيل: «البلاغة هي الايجاز» . 
والقصيدة الومضة أكثر ملاءمة للمبدع بعد قضائه سنوات طويلة في عالم الكتابة، حيث يصل إلى درجة كافية من الخبرة في التعامل مع اللغة، بحيث يختزل أكبر قدر من المعاني والرؤى والأفكار والأجواء النفسية في أقل عدد من الكلمات، وهنا تتحول القصيدة/ اللقطة إلى حالة شفافة معبرة بوضوح عن أمور أوسع نطاقاً من حدود الموقف العابر أو الصغير الذي يجري تمثيله فنياً، وهذا الاتجاه ليس سائداً في الشعر فقط،
فقد نلاحظه في السرد القصصي على سبيل المثال «أحلام فترة النقاهة» لأديب نوبل نجيب محفوظ، وفيها يتجه أيضاً إلى الاختزال والتكثيف باعتبار أن ذلك قمة البلاغة في السررد، 
و لدينا تجربة الدكتور كمال نشأت الرائدة الذي يتبني روح حركة التجديد في الأدب الحديث ، ففي بعض قصائده القصيرة و التي لا يتعارض الوضوح مع تحقق الغموض الفني اللازم لإتمام العمل الفني، وهو ذلك الغموض الذي يجعل تجربة القصيدة مثل القمر الذي يتشح بغمامة شفافة لا تحجب رؤيته، حيث يقول نشأت معبرا في قصائده القصيرة و ديوانه الأخر بعنوان ” مسافر بلا وصول … !! ” من خلال قصيدة «الأبواب»:
«الرجل الذي شاركني السكن/ لا يغلق الأبواب عند الخروج/ سألته.. أجاب: إنك ابن هذه المدينة/ أما أنا، فموطني الحقول/ وبابي السحاب قصيدة «الأبواب».

= قصيدة الإبيجراما :
مع ( فن الإبيجراما ( بالإنجليزية: Epigram) 
كلمة مركبة مستوحاة من اللغة اليونانية القديمة من كلمتين هماepos وgraphein، وكانت تعني الكتابة على شيء أو النقش على الحجر في المقابر بوصفها عملية إحياء لذكرى المتوفى، أو نحت تمثال لأحد الشخوص، إلى أن تحولت إلى نوع شعري قائم بذاته. 
والإبيجراما هي نوع شعري قديم تم تعريفه في الآداب اليونانية القديمة والأوروبية والعربية؛ كانت تعني في الآداب اليونانية الكتابة المنقوشة أو الكتابة على شيء. 
أما في الآداب الأوربية فقد تحولت في القرن السابع عشر من قبل جون دن، وأسكار وايلد إلى فن شعري قائم بذاته له سماته ومعاييره التي يمكن أن يتم الاحتكام إليها.
وعرف الإبيجراما الشاعر الرومانسي الإنجليزي كولردج بقوله: «إنها كيان مكتمل وصغير.. جسده الإيجاز، والمفارقة روحه».
كان يقصد بالإيبجراما في النقد الأدبي القصيدة القصيرة التي تتميز على وجه الخصـوص بتركيز العبارة وإيجازها، وكثافة المعنى فيها، فضلًا عن اشتمالها على مفارقة، وتكون إما مدحًا أو هجاءً أوحكمة .
أما في الشعر فكانت قد تتشكل أحيانا من جزء من القصيدة، يتمثل في بيتين أو رباعية دون أن يكون لها كيان مستقل. وارتبطت قصيدة الإِبيجراما ارتباطًا شديدًا بالنصوص التراثية مثل القرآن الكريم والكتاب المقدس والأساطير والتراث الشعري. 
و أخيرا :
الإِبيجراما هي نوع أدبي قائم بذاته له معاييره، وأحكامه من حيث الشكل والمضمون، مثل اللغة، والصورة الشعرية، والإيقاع، والتناص. 
و قد تميزت لغة الإبيجراما بالإيجاز والتكثيف وابتعدت عن استخدام المفردات الركيكة .

= قصيدة الهايكو : 
و قصيدة «الهايكو» في الأدب الياباني و التي تدور حول تجربة شعرية مكتملة 
و هي عملية تأمل عميق بلغة بسيطة، ونعم يمكن كتابته بلغة اخرى شرط القدرة .

ازدهر الـ”هايكو” في مرحلته الأولى في القرن الـ17 م، بفضل “باشو”، المعلم الأول لهذا الفن بلا منازع. يشكل كل من الشاعر والرسام “بوسون” (1716-1783 م)، “ماسا-أوكا شيكي” (1867-1902 م) و”كوباياشي إسّا” أعمدة هذا الفن.

الهايكو اساسا هو نمط من انماط الكتابة اليابانية يتكون من مقاطع كل مقطع 3 او 5 اسطر يعبر عنه بجمل مكثفة وبسيطة وهو جزء من الثقافة اليابانية وهي تشبه قصيدة الومضة لدينا لانها متقاربة معها بالدلالة والتكثيف والصورة … 
فقصيدة «هايكو» اليابانية تعتمدُ على الأبيات الثلاثة .
و قصيدة «تانكا» اليابانية تعتمدُ على نظام الأبيات الخمسة. 
«الهايكو» الذي يقوم على التركيز والتكثيف والاقتصاد اللغوي. «تمثل قصيدة الهايكو بضربٍ من الشعر المقتضب الدقيق الذي ينظمه الشعراء اليابانيون منذ القديم، وتتألف قصيدة الهايكو من سبع قطع موزعة (5-7-5) تنطوي على فصل من فصول السنة لتستحضر الطقس والنبات والطيور والحشرات»(22). 
فقصيدة «الهايكو» عبارة عن مقطعة شعرية قصيرة، تتكون من ثلاث أبيات، أولها وآخرها من خمسة مقاطع، ووسطها من سبعة، إن هذا لا يعني التزام مقلدي هذه الكتابة عندنا حرفياً بهده الشروط، ولكنهم ربما اهتموا بغنائية الموضوع، أكثر من احتفالهم بمعيارية الشكل، بسبب أن إيقاعية شعرنا ذاتية، لا إنشادية، قائمة على المقطعية .

والهايكو في لغتها، لها خصوصيتها مثل رفضها الاستعارة والتشبيه وتحريها الموضوعية وبعدها عن تصوير المشاعر الذاتية.

و في النهاية اتمني أن أكون ألقيت بعض الضوء علي ملامح و بناء شكل القصيدة و حركة التطور و التجديد شكلا و مضمونا بداية من القصيدة العمودية و المقطوعات داخل تغير حرف الروي القافية تشطيرا ثم التفعيلي الحر و أخيرا القصيدة القصيرة المكثفة ” الومضة ” و لها نظائرها في الأدب الأخر كالابيجراما و الهايكو و الي ما غير ذلك حتي ما يسمي قصيدة النثر و الخواطر مع الاختلاف في المعايير التي تحكم و تنظم عملية البناء الشعري بخصائصه الفنية الموروثة و المتعارف عليها . 
و كل هذا نابع ورافد من بيئة عربية أصيلة تحكمت في اتجاهاتها ظروف اجتماعية و سياسية و فكرية و ثقافية و عوامل أخري لا تخف علي باحث أو متذوق لفن الشعر الجميل دائما . 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى