قصة

بيت الأفندي

ثروت مكايد

-1-
كان شراء حذاء جديد لإبراهيم الأفندي حدثا يؤرخ له حتى إنه في أشد حالات الكرب – تلك التي مر بها من بعد – كان ينظر إليه بإعجاب شديد ..ولولا خوفه من لدغات الألسنة، ما مس حذاؤه التراب بل لعلقه في رقبته كما تعلق قلادة ، مفاخرا به ، لكن الحسد تسلل إلى نفوس إخوته تسلل ثعبان، وراح ينفث في صدورهم سمه حتى قال كبيرهم في ساعة وجد فيها والده يسيل لعابه كلما نظر إلى حذاء ابنه :
– أتدري بكم اشترى ابنك هذا الحذاء ؟!
رد أبوه والعجب يخيم على رأسه الصلعاء :
– ومن أدراني ، فلم أشتر حذاء قط !
– إنه ..بستين جنيها ..
لطم عبده الأفندي – والد إبراهيم – صدره بيد مرتجفة، وتمتم لاهثا :
– ستووووون جنيها !!
– ثروة ..
– لا ..لا أصدق هذا .من أين أتى ابن الكلب بستين جنيها !
وعاد ينظر إلى الحذاء ، وأردف :
– إبراهيم نفسه لا يساوي هذا المبلغ ..
ضرب ابنه الكبير يدا بيد ، وقال بامتعاض :
– هكذا أنت دائما لا تريد أن تصدقني مهما أقسمت لك . إنه لا ينفق مليما واحدا منذ ..منذ سنوات طويلة مدعيا الفقر ثم يشتري حذاء بستين جنيها ..هو نفسه أخبرني بهذا ، وكان يضحك !
تدخل طلعت الأفندي – أصغر أبناء عبده الأفندي – ليؤكد كلام أخيه الكبير ، وقال :
– لا يمكن أن نعيش في فاقة حتى إنه لا يوجد لدينا رغيف خبز ثم يشتري ابنك حذاء بستين ! ، لا أعرف كيف هان عليه أن يدفع كل هذا المبلغ في …في حذاء !!
وتشكلت جبهة في رباط من حقد وحسد ضد حذاء إبراهيم الأفندي الذي جاء في غفلة من الزمن .
-2-
لم يمض أسبوع على شراء حذاء إبراهيم الأفندي حتى مات أبوه بعد أن صعق بالحقيقة إذ لم يتحمل قلبه وقع المفاجأة ، وأصبح إبراهيم الأفندي وجها لوجه أمام أخويه . إن شعورا قاتلا بالذنب ينخر في قلبه لكن نظرة واحدة إلى الحذاء تعيد إليه لذة الحياة ..وقال لهما :
– لم أقتله بل قتله حقدكما علي ، وحسدكما ..
وقال طلعت الأفندي :
– منذ دخل هذا الحذاء بيتنا ، والنار فيه مشتعلة ..
وأصر أخوه الكبير على إرجاع الحذاء واسترداد ثمنه وإلا حدث مالا تحمد عقباه ، وذكر أن هذا أقل ما يجب عمله ، لتشفى صدورهم ، وليرقد والدهم مستريحا في قبره ، لكن الأفندي – إبراهيم- لم يرضخ لهما ، وأصر هو الآخر على بقاء الحذاء ، وذكر أن وجود الحذاء في حياته أمر حيوي ..ومشروع مادام هو نفسه الذي حصل عليه بحر ماله ، وعرق جبينه ، وأسرع إلى الحذاء ليأخذه حين لمح في عيني طلعت شرا ، لكن طلعت كان أقرب إلى الحذاء ، فالتقطه مما جعل الدم يغلي في عروق إبراهيم الأفندي حتى إنه أوسع طلعت ضربا بالأيدي والأقدام ، وجذب الحذاء من يد طلعت الذي كانت يداه قد ماتتا على الحذاء مما أدى إلى تفسخه ، فاندفع إبراهيم الأفندي إلى المطبخ ، وخرج بسكين ، وفي لا وقت كان السكين يرقد في صدر طلعت الأفندي .
-3-
وقف إبراهيم الأفندي كتمثال أمام المحقق الذي أخذه العجب حين ذكر له إبراهيم أن ما حدث كان يجب أن يحدث ، وماكان له أن يترك الحلبة منهزما بعد أن تفسخ الحذاء أمام ناظريه .. وقال :
– لست نادما ..ولو عادت دورة الحياة لقتلته بل لقتلتهما معا ..
وقال أيضا :
– إن استيلاء القتيل لا رحمه الله على حذائي يعدل استيلاءه على روحي ثم إن ثمن الحذاء الذي اشتريته به يمثل كل ثروتي …كل ما أملك في الحياة ، فكيف أرى ثروتي تتفسخ أمامي .
-4-
سار إلى المشنقة باسم الثغر وفي عينيه بريق ..بريق لم ير في عينيه من قبل ، وكان آخر ما تحدث به إبراهيم الأفندي قوله : ” من قتل دون ماله فهو شهيد .” .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى