قصة

بــطن شــهر

محمد الشطوي

 

حين أشرقت شمس يومي الجديد كنت على الشاطئ في منطقة لا تبعد عن عروس البــحر الأبيض المتوسط بسنــــارتي ذات القصبة الطويلة..
تغيرت الرؤى، والمشاعر مع طلوع أول خيط ضوء من خيوط الشمس البرتقالية، وأحسست أن الرمال تتحرك، والموج يرقص، والدنيا تصحو كأنها على موعد مع الخلق الجديد …
ساعة أو أكثر لا تتحرك السنارة ، ولا شيء في الأعماق يبشر بخير ..
رأيت الناس يمرون عليَّ ..يبتسمون أو يضحكون ، ولا أدري لماذا؟..
لفت انتباهي ازدهار عود من زهرة النرجس يتمايل وحيدا معجبا بنفسه..
جذبني شكله وتميز المكان به.. اقتربت قليلا من الزهرة، و هي تميل على الماء..نظرت .. كأني رأيت (جزيرة) ! من الماء الأزرق الصافي اللامع لشدة عمقها.. انتبهت حين هبت من تلك البقعة رائحة عفنة.. سددت أنفي وخلعت عود النرجس من جذوره.. اسودَّ سريعا..وذبلت أوراق الوردة ثم انتثرت على وجه الماء في تلك البقعة..طَــفَتْ أعواد كتلك التي قطفتـــها كأنها تستدعي ما في يدي للانضمام إليها..كدت أصرخ عجبا ، وتساءلت: ألم أنزع الوردة من جذرها؟.. فمن أين نبتت هذه الورد في مكانها بهذه السرعة، وهذا الجمال؟..
ركعت أشم الوردة الجديدة، لم تكن لها رائحة..هزني الشيطان الذي بداخلي فنزعتها كسابقتها فإذا المكان نفسه يجود بباقة منها؛ لكن ما إن جمعتها بقبــضتي حتى اسودت الجذور، وتناثرت الزهور ليبتلعها الماء في صوت باكٍ مسموعٍ، ولم أشعر بالدماء تسيل من كفي بغزارة، والسنارة تغمز..
تـنحني على الماء من ثقل ما صادت.. ربطت يدي بمنديل لأوقف النزيف، وأخرجت السنارة فإذا بها صيدرية بطراز عربي قديم أذكر أني رأيت مثلها على بطل فيلم لص بغداد..
فرحت بما اصطدت.. وأعدت السنارة للماء.. رأيت من يناديني قادما من الغرب عاري الصدر تبرز فيه نهود كنهود الصبايا البكر.. يلبس نفس الصيدرية البغدادية.. يغطي رأسه بقلنسوة كسلاطين المماليك.. يبرم شاربه بالسمن والصمغ ولحمه يختفي تحت أشكال وشم التاتوه الغريبة..
خاطبني بصوت عميق غليظ يتهمني بالهبل، والعبط لأني اخترت للصيد منطقة ( بطن شهر زاد ) والتي لا تعطي شيئا إلا مما كان في حكايها القديمة الأسطورية.. وهذا يوم انتحر فيه الشاب النرجسي إعجابا بشكله في الماء وفي هذا اليوم يتعفن الماء، وتكثر زهور النرجس حتى لا تكاد تغيب إلا مع الشمس..
اختفى الرجل الأسطوري ملقـــوفا بكتلة من البخار و الضباب، ولم يترك بالمكان سوى رائحة تشبه رائحة الجزيرة المائية..
علت الشمس رأسي .. بَـخَّتْ وجـهى برذاذ ساخن، وأسقطت في ” بطن شهر زاد ” كمية من زهور النرجس..
نافورة من الماء والزهور ترقص وتغني على دفوف من أنغام الليالي .. شدني المشهد الراقص.. تقدمت نحوه مسلوب الإرادة والجنان ..
غابت الشمس فوجدتني ملقى على ظهري فوق الرمال وحولي جمع من الناس من أجملهم باقة الأطفال وهم يلتفون حولي وينثرون على صدري العاري – نابت الأثداء – زهور النرجس، وماء الحياة ..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى