دراسات و مقالات

بعض مكونات الشعرية في القصة القصير جدا

مريم بغيبغ

قصة “تميمة ” للقاصة السورية “جمانا العامود “نموذجا.
تميمة : أرسل لها : أماه نصفي تحت التراب ،بضعي في ساحة الوغى ، وما بقي مني ينتظر الوقت بين الأفواه الجائعة والرغيف.
إن الحديث عن الشعرية باعتبارها نظرية قد تجاوزه الزمن ،فالشعرية تعتبر منهجا يبحث في النص، ولا يمكن ذلك إلا من خلال ارتباطها بالجديد، والشعرية ليست نظرية ومنهجا خاصا بالشعر فهي منذ حاتم القرطاحني ” 1 تعني القوانين الأدبية بصفة عامة ومنها الشعر “.
إن الوعي بخصوصية القصة القصيرة جدا كنص جديد ، يتجلى في تميزها بلغتها الأدبية والشعرية، وهذا “بسبب كثافتها الشديدة واقترابها من لغة الشعر في أجواء تعبيرية ورمزية سواء على صعيد الجملة التي تنتج صورا ومجازات، أو على صعيد الدلالة العامة التي تنتجها القصة “2، ومنه فلابد للنقاد أن يهتموا بلغة القصة القصيرة جدا الأدبية والشعرية، خاصة عندما تلامس روح كاتبها وتحس احساسه وتعيش تجربته وهذا ما التمسناه في قصة “تميمة ” للقاصة السورية جمانا العامود ، التي استطاعت من خلال نصها هذا أن تشغلنا بطاقته اللغوية والبلاغية والدلالية.
لقد بالغ نقاد القصة القصيرة جدا في الحديث عن ماهيتها ، وجذورها وتفننوا في صياغة شروطها واختلفوا كذلك ، وهذا ما جعلهم يغفلون اللفظ والتركيب والتخييل وهي مواضيع قديما كانت خاصة بالشعر، إضافة إلى الوزن والقافية إلى غير ذلك من مكوناته …وما يميز القصة القصيرة جدا كفن سردي أنه يتقاطع مع مكونات الشعر.
فالقصة القصيرة جداً جنس أدبي قائمٌ بذاته، يمتلك طاقاتٍ واسعةً في التعبير عن التجربة الإنسانية المعاصرة، وله القدرة على احتواء التجربة الروحية والفكرية للكاتب، والنص الذي بين أيدينا يحكي عن مأساة وطن أنهكته الحرب الأهلية،يتخبط بين “الموت والمعارك والشتات في المخيمات ” فنجد أن الكاتبة تثير فينا حسا إنسانيا، فنتأثر ونحس بأوجاعها بلغة شعريّة تجلت من خلال :
أولا : اللفظ:إن القصة القصيرة جدا مثلها مثل الأجناس الأدبية الأخرى عبارة عن بناء لغوي ، واللغة هي عبارة عن ألفاظ ، وقد تميزت ألفاظ النص الذي بين أيدينا : بالعذوبة والسلاسة والفصاحة ، فهي ألفاظ ظاهرة لا غرابة فيها وقد جاءت ملائمة للموضوع مرتبطة ارتباطا قويا بدلالاته .
فإذا نظرنا إلى العنوان /العتبة التي هي في الحقيقة انعكاس للنص ، تشكل قوامه الفني والجمالي باعتباره نظاماً ونسقاً ، “فلفظة تميمة “في نصنا هذا استطاعت أن تجذبنا لقراءة النص ، لأنها تغتني بمعان عديدة توضح دلالاته.
“تميمة “هي كلمة رقيقة خفيفة على اللسان ، حسنة الوقع على الأذن ، ولها معنى لغوي يحقق غاية النص ودلالاته فهي معجميا تعني:خرزة وما يشبهها تُعلَّق في العنق ظنًّا أنها تدفع العينَ أو تقي من الأرواح الشِّرِّيرة، أو شيء تُنسب إليه قوَّة سحريّة تحمي مالكه ” أو هي “الحِرْزُ لِدَفْعِ الأرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ “، فالكاتبة من خلال هذا الفظ تحاول أن ترسل رسالة للقارئ أن ما يحدث للوطن – الذي كان يعيش في سلام وأمن – من دمار وشتات وموت وخوف وفقر، هو عين شريرة أصابته بالحسد أو روح شريرة سكنته ، وهذا ما يتطلب منه “تميمة ” تدفع عنه كل ذلك .
وقد جاءت ألفاظ النص شاعرية فصيحة قوية ظاهرة سواء على المستوى الصوتي أو المستوى التداولي : أماه، تراب، الوغى، الوقت ، الأفواه الجائعة ، الرغيف . فهي ألفاظ متآلفة الحروف ومنسجمة وغير متنافرة ، وحسنة السمع بالإضافة إلى أنها حققت دلالة النص.
ثانيا التركيب :لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعزل اللفظ عن سياقه ، ولا يمكن أن تتحق فنية وشعرية القصة القصيرة جدا من خلال وضوح اللفظ وفصاحته فقط.
فإذا تأملنا اللفظ فإنه لا يكون فصيحا بمفرده وإنما يكون ذلك من خلال سياقه داخل النص، إن الجمال في القصة التي بين أيدينا يتجلى من خلال العلاقة الجدلية بين الألفاظ، وحسن ملاءمتها للمعاني واتفاقها.
تميمة : أرسل لها : أماه نصفي تحت التراب ،بضعي في ساحة الوغى ، وما بقي مني ينتظر الوقت بين الأفواه الجائعة والرغيف.
إذا تأملنا النص ، فإننا نلاحظ أنه عبارة عن رسالة شكوى، لأم وأي أم: هل هي الأم الحقيقية أم هي الأرض والوطن …إن علاقة الألفاظ ببعضها البعض تشكل لنا المعنى الحقيقي للنص ، فمن خلالها نفهم من هي الأم، ومن هو المرسل .
فالمرسل هو :الشعب .والمرسل إليه هو : الوطن “سوريا”…ومؤانسة الألفاظ لبعضها البعض جعلتنا نصل إلى مغزى الرسالة التي كانت عبارة عن شكوى: وهي أن الشعب السوري اكتوى بنار الحرب الأهلية فنصفه مات ، وبعضه مازال يقاتل بعضه ، وما بقي يقتله البرد والجوع في المخيمات، والطلب هو “التميمة ” والمعنى منها ليس الحِرْزُ لِدَفْعِ الأرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ، بل المعنى هووجود حل لهذه الأزمة.
إن النص الذي بين أيدينا غني بمكونات الشعرية ، وجماله لا يكمن فقط من خلال ألفاظه وتركيبه ، بل في قوة عنصر التخييل الذي هو أساس أي ابداع سواء كان شعري أو سردي ، فسر اللذة في نص “تميمة ” ما أحدثه من استغراب ودهشة لحظة قراءتنا له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/انظر حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الادباء :تحقيق وتقديم :” محمد الحبيب ابن الخوجة ط3.1986.دار العرب بيروت لبنان ص28.
2/ينظر: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي: ص 169.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى