دراسات و مقالات

الوطنية و الغربة في شعر البارودي و شوقي

السعيد عبد العاطي مبارك

ولولا بُنياتٌ وشِيبٌ عواطلٌ – لما قَرَعَتْ نفسي على فائِتٍ سِني

أَبِيتُ في غُرْبَةٍ لا النَّفْسُ رَاضِيَةٌ بِها وَلا المُلْتَقَى مِنْ شِيعَتِي كَثَبُ
فَلا رَفِيقٌ تَسُرُّ النَّفْسَ طَلْعَتُهُ وَلا صَدِيقٌ يَرَى ما بِي فَيَكْتَئِبُ
وَمِنْ عَجَائِبِ ما لاقَيْتُ مِنْ زَمَنِي أَنِّي مُنِيتُ بِخَطْبٍ أَمْرُهُ عَجَبُ
لَم أَقْتَرِفْ زَلَّةً تَقْضِي عَلَيَّ بِما أَصْبَحْتُ فيهِ فَماذَا الْوَيْلُ والْحَرَبُ
فَهَلْ دِفَاعِي عَنْ دِيني وَعَنْ وَطَنِي ذَنْبٌ أُدَانُ بِهِ ظُلْمَاً وَأَغْتَرِبُ
” محمود سامي البارودي “
————
أَحـــرَامٌ على بَلابِلِهِ الدَّوْحُ حلالٌ للطَّيْرِ مِنْ كُلِّ جِــنْسِ ؟
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلســبيل ظمأ للسواد من (عين شمس)
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي
أيا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأس كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا
وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَوما إِذا رُزِقَ السَلامَةَ وَالإِيابا
وَلَو أَنّي دُعيتُ لَكُنتَ ديني عَلَيه أُقابِلُ الحَتمَ المُجابا
” أمير الشــــــعراء أحمد شوقي “
——–
عندما نطالع شعر البارودي و شوقي مع عصر النهضة و الشعر العربي الحديث نلمح خصائص و سيمات عندهما فهما جناحا التجديد و التطور في اتجاهات القصيدة الحديثة بكافة سيماتها الفنية ، و حمل كل منهما مرحلة اتسمت بالإبداع و الابتكار كما تتجلي قصائدهما ” الوطنية و الغربة في المنفي ” .
ننوه هنا عن خصائص شعر المنفي و التجديد في شعر البارودي و شوقي :
————————————–
خصائص أدب المنفى :
– الحنين إلى الوطن – ذكر مآثر الوطني – الإهتمام بالصورة الشعرية – البكاء على فراق الأهل والمحبة
– طغيان مسحت (ظاهرة الحزن على القصيدة ) – النزعة الإنسانية .مظاهر التجديد في القصيدة العربية المعاصرة :
– بناء القصيدة أو النص على وحدة التفعيلة دون تقيد بعدد التفعيلات في السطر
– تجلي الوحدة العضوية (الترابط بين وحدات النص أي أبيات النص ترابطا يستحيل معه التقديم أو التأخير)
– شيوع ظاهرة الرمز – التعبير بالصورة الشعرية التي حلت محل البيان والبديع التقليدي
– الإهتمام أكثر بالمضمون أو المحتوى) – المزج بين بساطة اللغة والعمق الدلالي للألفاظ (إستخدام الألفاظ الموحية
– شيوع النزعة التفاؤلية أو التشاؤمية – النزعة الإنسانية .

* مع رب السيف و القلم الفارس البارودي – 17 سنة في المنفي :
———————————————————–
أيَتْرُكُ الْحُبُّ قَلْبِي مِنْ لَواعِجِهِ .. كَأَنَّمَا بَيْنَ قَلْبِي وَالْهَوَى نَسَبُ.
هو محمود سامي باشا بن حسن حسين بن عبد الله البارودي المصري ” 1839 – 1904 م ” رئيس وزراء مصر ووزير الحربية و الشاعر الفارس المغوار الوطني .
ولد في حي باب الخلق بالقاهرة . وكان أجداده ملتزمي إقطاعية إيتاي البارود بمحافظة البحيرة. يعتبر البارودي رائد الشعر العربي الحديث الذي جدّد في القصيدة العربية شكلاً ومضموناً، ولقب باسم فارس السيف والقلم.
أتم دراسته الابتدائية عام 1851 م ثم التحق بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية المفروزة وانتظم فيها يدرس فنون الحرب، وعلوم الدين واللغة والحساب والجبر وتخرج من المدرسة المفروزة عام 1855 م ولم يستطع استكمال دراسته العليا، والتحق بالجيش السلطاني.
بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي، وفتح بيته للأدباء والشعراء، يستمع إليهم، ويسمعون منه، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران، وإسماعيل صبري، وقد تأثروا به ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وأُطلق عليهم “مدرسة النهضة” أو “مدرسة الأحياء”. ولم تطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فتوفي في 12 ديسمبر 1904 .
البارودي شاعرا :
—————-
يعد البارودي رائد الشعر العربي في العصر الحديث؛ حيث وثب به وثبة عالية لم يكن يحلم بها معاصروه، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة، ووصله بروائعه القديمة وصياغتها المحكمة، وربطه بحياته وحياة أمته.[1]
وهو إن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضوعات وفي أسلوبهم وفي معانيهم، فإن له مع ذلك تجديدًا ملموسًا من حيث التعبير عن شعوره وإحساسه، وله معان جديدة وصور مبتكرة.
وقد نظم الشعر في كل أغراضه المعروفة من غزل ومديح وفخر وهجاء ورثاء، مرتسمًا نهج الشعر العربي القديم، غير أن شخصيته كانت واضحة في كل ما نظم؛ فهو الضابط الشجاع، والثائر على الظلم، والمغترب عن الوطن، والزوج الحاني، والأب الشفيق، والصديق الوفي.
وترك ديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت، طبع في أربعة مجلدات، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري، أطلق عليها “كشف الغمة”، وله أيضًا “قيد الأوابد” وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع، و”مختارات البارودي” وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرًا من فحول الشعر العباسي، يبلغ نحو 40 ألف بيت.
البارودي سياسيا :
—————–
اشترك الفارس الشاعر في إخماد ثورة جزيرة أقريطش (كريت) عام 1865 واستمر في تلك المهمة لمدة عامين أثبت فيهما شجاعة عالية وبطولة نادرة. وكان أحد أبطال ثورة عام 1881 م الشهيرة ضد الخديوي توفيق بالاشتراك مع أحمد عرابي، وقد أسندت إليه رئاسة الوزارة الوطنية في 4 فبراير 1882 م حتى 26 مايو 1882 م.
بعد عودة البارودي من حرب البلقان تم تعيينه مديرًا لمحافظة الشرقية في (ربيع الآخر 1295هـ = إبريل 1878م)، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها، بعد أن غرقت البلاد في الديون، وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية، بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة، وظهر تيار الوعي الذي يقوده “جمال الدين الأفغاني” لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار، وفي هذه الأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته، توقظ النائم وتنبه الغافل، وهي قصيدة طويلة، منها:
جلبت أشطر هذا الدهر تجربة وذقت ما فيه من صاب ومن عسل
فما وجدت على الأيام باقية أشهى إلى النفس من حرية العمل
لكننا غرض للشر في زمن أهل العقول به في طاعة الخمل
قامت به من رجال السوء طائفة أدهى على النفس من بؤس على ثكل
* مع بعض بكائيات ” البارودي أين أيامي لذتي و شبابي ؟! :
——————————————————–
التي نسجها حزنا و كمدا وى شوقا في منفاه بسرنديب كولمبيا .. !!
وهذه القصيدة واحدة من بكائياته التي قالها وهو في منفى في سرنديب – سريلانكا الآن – يحن فيها ويتشوق إلى مصر، ويبكي صديقيه الأديبين: حسين المرصفى، وعبدالله باشا فكري.
يقول البارودي:أين أيام لذتي وشبابي **أتراها تعود بعد الذهاب؟

ذاك عهد مضى وأبعد شيء ** أن يرد الزمان عهد التصابي

فأديرا علي ذكراه، إني **منذ فارقته شديد المصاب

كل شيء يسلوه ذو اللب إلا **ماضي اللهو في زمان الشباب

ليت شعري متى أرى روضة المنيل ** ذات النخيل والأعناب

حيث تجري السفين مستبقاتٍ ** فوق نهر مثل اللجين المذابِ

قد أحاطت بشاطئيه قصور ***مشرقات يلحن مثل القباب

ملعب تسرح النواظر منه **بين أفنان جنة وشعاب

كلما شافه النسيم تراه ** عاد منه بنفحة كالملاب

ذاك مرعى أنسي، وملعب لهوي ** وجنى صبوتي ومغنى صحابي

لست أنساه ما حييت وحاشا **أن تراني لعهده غير صابي

ليس يرعى حق الوداد ولا ** يذكر عهدا إلا كريم النصاب

فلئن زال فاشتياقي إليه **مثل قولي باق على الأحقاب

يا نديمي من سرنديب كفا ** عن ملامي، وخلياني لما بي

كيف لا أندب الشباب **وقد أصبحت كهلا في محنةٍ واغتراب

أخلق الشيب جدتي وكساني ** خلعة منه رثة الجلبابِ

ولوى شعر حاجبيّ على عيني ** حتى أطل كالهداب

لا أرى الشيء حين يسنح إلا ** كخيال كأنني في ضباب

وإذا ما دعيت صرت كأني ** أسمع الصوت من وراء حجاب

كلما رمتُ نهضة أقعدتني ** ونية لا تقلها أعصابي

لم تدع صولة الحوادث مني **غير أشلاء همة في ثياب

فجعتني بوالدي وأهلي ** ثم أنحت تكر في أترابي

كل يوم يزول عني حبيب ** يالقلبي من فرقة الأحباب

أين مني حسين بل أين **عبدالله رب الكمال والآداب

مضيا غير ذكرة وبقاء الذكر ** فخر يدوم للأعقاب

لم أجد منهما بديلا لنفسي ** غير حزني عليهما واكتئابي

قد لعمري عرفت دهري **فأنكرت أمورا ما كن لي في حساب

وتجنبت صحبة الناس حتى ** كان عونا على التقاة اجتنابى

لا أبالي بما يقال وإن كنت **مليئا برد كل جواب

قد كفاني بعدي عن الناس أني ** في أمان من غيبة المغتاب

فليقل حاسدي علي كما شاء ** فسمعي عن الخنا في احتجاب .

مع أمير الشـــــــعراء أحمد شوقي وروائعه في المنفي :
==============================
أمير الشعراء أحمد شوقي :
شاعر القصر و الشعب .. !!
ولد بالقاهرة في 16 من أكتوبر سنة 1870م .
وقد درس في مدرسة الحقوق ، وبُعث إلى فرنسا لدراسة الحقوق والآداب ، ولما عاد صار شاعر الخديو والقصر – وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م نفي إلى إسبانيا سنة 1915 م لصلته بالخديو
عباس حلمي الثاني الذي عزله الإنجليز ؛ لتأييده تركيا ضدهم .. وبعد الحرب عاد إلى مصر سنة 1920 م ، فاتصل بالشعب وصار لسان العروبة والإسلام وبويع أميرًا للشعر سنة 1927م – وتوفاه الله 23 من أكتوبر سنة 1932م.
ومن آثاره الشوقيات – أسواق الذهب- ومسرحيات شعرية هي : علي بك الكبير – قمبيز – عنترة – كليوباترا – مجنون ليلى – الست هدى . وله مسرحية نثرية هي : أميرة الأندلس.
كتب في جميع الاغراض من مديح ورثاء ووصف و اجتماعيات و وطنيات و ديني و و حكمة ، للحيوان و الطير و الاطفال …
و تظل قصائده الوطنية و الدينية تنطق بروعته و عبقريته و لا سيما فترة الأندلس في المنفي .
* شوقي رائد التجديد :
———————-

يعتبر الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي من أبرز روّاد حركة التجديد في الشعر العربي واعتُبِر واحداً من الشعراء الذي كتبوا قصائدهم وفقاً للطريقة التقليدية بالرغم من أنّ الفترة الزمنية هي العصر الحديث الذي شهد ظهور الشعر الحُر، والمدرسة الرومانسية. كما سطع نجم شوقي في النهضة الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية والمسرحية، وبالإضافة إلى ظهور ملامح التجديد في معظم قصائده الشعرية التي نظمها، ومن أبرز ما تأثر بالتجديد هو ديوان الشوقيات الشامل لعدد ضخم من القصائد التفاوتة ما بين مديح ورثاء وحكمة وتعليم وسياسة ومسرح .

و برز جانب التجديد في مطلع القصيدة و الغرض و ظهور المدرسة الكلاسيكية و مدي التأثر بها ، مع الحفاظ علي مظاهر القصيدة العربية بكافة خصائصها .

و تبعه شاعر النيل حافظ ابراهيم و اسماعيل صبري و غيرهما كما يأتي جيل مدرسة ( أبولو ) فيما بعد .
* شوقي مع الوطنية و المنفي و الحنين :
—————————————-
هذا النص وليد تجربة شعرية صادقة مؤثرة للمتأمل ، فقد قاله شوقي وهو في منفاه بالأندلس ( من أندلسيات شوقي ) .
معبراً عن شعوره بالغربة والحنين إلى مصر متأثراً بقصيدة البحتري السينية حين شعر بجفوة ابن المتوكل له فترك بغداد إلى المدائن ورأى آثار الفرس فيها . ومطلعها :
صُنْتُ نفسي عَمَّا يُدَنِّسُ نفسي وترفَّعْتُ عن جَدَا كل جِبْس
فعارضه شوقي وحاكاه بهذه القصيدة على نفس الوزن والقافية .
يقول شوقي :
أيا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأس كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا
وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَوما إِذا رُزِقَ السَلامَةَ وَالإِيابا
وَلَو أَنّي دُعيتُ لَكُنتَ ديني عَلَيه أُقابِلُ الحَتمَ المُجابا
أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهي إِذا فُهتُ الشَهادَةَ وَالمَتابا
و يقول شوقي أيضا :
وسَلا مِصْرَ هَلْ سَلا القَلْبُ عَنْها أَوْ أَسَا جُرْحَهُ الزَّمانُ المُؤَسِّي؟
كُلَّمَا مـــــرَّتِ اللَّيالي عَلَيْه رَقَّ وَالعَهْدُ في اللَّيالي تُقَـسِّي
مُسْـــتَطارٌ إذا البَوَاخِرُ رَنَّتْ أوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ عَوَتْ بَعْـدَ جَرْسِ
رَاهِبٌ في الضُّلوعِ للسُّفْنِ فَطْنٌ كُلَّمَا ثُرْنَ شــــاعَهُنَّ بنَقْسِ
يا بْنَةَ اليَمِّ ما أبوكِ بَخِـــيلٌ مَالَهُ مُولَعًا بمَنْعٍ وحَـــبْسِ؟
أَحـــرَامٌ على بَلابِلِهِ الدَّوْحُ حلالٌ للطَّيْرِ مِنْ كُلِّ جِــنْسِ ؟
كُلُّ دَارٍ أَحَــــقُّ بالأَهْلِ إِلا في خبيثٍ مِنَ المَذاهِبِ رِجـْسِ
نَفَسِي مِرْجَلٌ وقَلْبِي شِــرَاعٌ بهِما في الدُّموعِ سِيرِي وأَرْسِي
وَاجْعَلِي وَجْهَكِ الفَنَارَ ومَجْرَاكِ يَدَ الثَّغْرِ بينَ (رَمْلٍ) وَ (مَكْسِ)
هذه كانت اطلالة سريعة علي عالم الشاعرين ” البارودي و شوقي ” حيث كانت كلمات الوطنية و الغربة و المنفي قواسم مشتركة بجانب التجديد في المعاني و الصور البيانية المتباينة و الأخيلة المركبة و الموسيقي المتجانسة تزين ملاحمهم الشعرية ذات النفس الطويل مع محراب الحياة المقدس .
و من ثم نظل نطوف بينهما عبر رحلة تأملية تشرق من أقاصي القلب المعلى ، لتضيء لنا ملامح الفن الجميل شكلا و مضمونا دائما .
مع الوعد بلقاء متجدد لتغريدة الشعر العربي أن شاء الله .
Image may contain: 1 person, text
Image may contain: 1 person

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى