دراسات و مقالات

الملك عمرو بن هند يرفع سبعة ستور إكراما للشاعر الحارث بن حلزة )

السعيد عبد العاطي مبارك

و هو أحد شعراء المعلقات، يقول الحارث بن حلّزة مطلع معلقته :

آذنَتْنا بِبينهَا أسْماءُ

ربَّ ثاوٍ يُمَلّ منه الثّواءُ

(وثاوٍ يعني مقيم والثواء أي الإقامة)

فهذه القصيدة _ المعلقة _ لها حكاية فريدة تنم عن حالة العرب الاجتماعية و الأدبية سوف نتأملها سويا في هذه السطور التالية .

نعم ان الحديث ذو شجون عن الشعر و الشعراء،و لا سيما عن شعراء المعلقات التي تذخر بهم الساحة العربية منذ العصر الجاهل قبل البعثة المحمدية، و اليوم نتوقف مع هذا الشاعر الحكيم الذي خلده شعره عند مناسبات الحروب و الصراعات و مدي عبقريته هنا في هذا الموقف و الخطب الجليل ٠٠٠

وقبل التعرف علي قصتها نتعرف على الشاعر وعلى قبيلته.

هو الحارث بن حِلّزة بن مكروه بن بديد بن عبدالله بن مالك بن سعد بن حشم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن ربيعة بن نزار بن عدنان بن أدد.

بالنسبة لاسم أبيه حِلِّزة وتعني في قواميس اللغة العربية المرأة القصيرة أو السيئة الخلق، كما تعني الكائن الحي داخل الصدفة ولعلها الحلزون..
كما يطلق اسم حلِّزة على البومة.

كان الحارث بن حلزة يتمتع بقدرة غير عادية على ارتجال النثر والشعر معاً حتى إن بعض الدارسين يرون أنه كان من خطباء قومه يلجؤون إليه لحل مشاكلهم.. ويذكرون أنه ألقى قصيدته المعلقة ارتجالاً.

انتمى الحارث إلى بني بكر وكان شاعرهم وخطيبهم.
عاش معاصراً للشاعر عمرو بن كلثوم شاعر بني تغلب، وفي عصر الملك عمرو بن هند، وتوفي نحو 580 ميلادية، ويقال إنه عاش مائة وخمسين سنة.

الخطيب التبريزي يقول: إنه أنشد معلقته وهو في المئة والخامسة والثلاثين ٠

لدى الحارث بن حلزة قصائد غير المعلقة ولكنها تناثرت في بعض المراجع وفُقد معظمها.

ورغم الشهادات العديدة على فصاحته وقدرته الخطابية الارتجالية إلا أنه كان يعاني من البرص، وكان لذلك مكروهاً من قبل الملوك وكبار الولاة والحكام..

مع حكاية قصيدته المعلقة ٠٠٠
و ها هي معلقةالحارث بن حلزة كما رواها ابن الأنباري والخطيب التبريزي.

تلخص لنا حالة الصراع الذي بدأ بحرب البسوس بين بكر وتغلب لم ينته إلا بجراح أليمة وأحقاد دفينة، رغم أن القبيلتين تنتميان إلى جد واحد..
فبكر وتغلب أخوان والحرب التي دارت كانت بين أبناء العم. ولكن هكذا كانت طبيعة الصحراء.
وكادت الحرب تقع مرات و مرات ٠٠٠

تم الاتصال بين الحكماء في القبيلتين واتفقوا بالإجماع على الصلح والاحتكام إلى أحد ملوك العرب وهو ملك الحيرة عمرو بن هند..

قال عمرو بن هند لحكماء القبيلتين:
إنني أصغيت باهتمام لكل ما قلتموه.. ولكني لن أصدر حكمي الآن..

صاح أحد حكماء بني تغلب: ولكننا رضينا بك حكماً وأنت وحدك من يمكنه أن يوقف سفك الدماء ويعيد السلام إلى القبيلتين.

عمرو بن هند:
هذا صحيح.. ولكن قبل أن أحكم فأنا أطلب من بكر أن يأتوني بسبعين رجلاً من أشرافهم فأجعلهم في وثاق عندي.. فإن كان الحق لبني تغلب دفعت السبعين رجلاً إليهم يفعلون بهم ما يشاؤون.. وإن لم يكن لهم حق خليت سبيلهم فهل توافقون؟

وافق الطرفان على ذلك الاقتراح.. وتم الاتفاق على اللقاء في يوم بعينه..

وأعدت كل قبيلة من يمثلها في ذلك الاجتماع التاريخي مع الملك عمرو بن هند.

وكان الشاعر عمرو بن كلثوم ممثلاً لقبيلة تغلب أما بنو بكر فقد كان لديهم شاعران.. الأول النعمان بن هرمٍ أحد أبناء ثعلبة بن غنم بن يشكر، والثاني هو الحارث بن حلّزة شاعرنا الذي ذكرناه في البداية..

وكان النعمان بن هرم ثقيل السمع سليط اللسان، فما كاد يقف أمام عمرو بن كلثوم حتى بادره قائلاً:
يا أصم.. جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك.

قال النعمان:
إنهم يفخرون على كلِّ من أظلت السماء..

قال عمرو:
أما والله لو لطمتك لطمة ما تحرك أحد منهم لنجدتك والأخذ بثأرك.

قال النعمان:
والله لو فعلت ما أفلتَّ بها.

وقام بشتم عمرو بن كلثوم شتيمة مقذعة.. فغضب الملك عمرو بن هند وكان يميل إلى بني تغلب.. فنادى إحدى الجاريات قائلاً:
يا جارية.. اشتميه بلسانك.

قال النعمان: اعط ذلك أحب أهلك إليك.

قال عمرو بن هند:
يا نعمان.. أيسرّك أني أوبخك..

قال النعمان:
لا.. ولكن وددت أنك أمي..

وهنا وصل الغضب بعمرو بن هند إلى أوجه وهم بقتل النعمان، ولكن الحارث بن حلّزة أنقذ الموقف ونهض متكئاً على قوسه وظل يضغط عليها حتى انتهى من قصيدته التي ارتجلها ارتجالاً.

و كان الحارث بن حلزة يعاني البرص، فأمر الملك عمرو بن هند أن يوضع بينه وبين الحارث بن حلّزة سبعة ستور كرهاً للوضع الذي كان في الحارث..
ولكن ما كاد الحارث بن حلّزة ينطق البيت الأول من قصيدته حتى قال الملك:
أحسنت أحسنت..

ثم أمر برفع واحد من الستور ودنا من الشاعر.. وما زال عمرو بن هند يرفع الستار تلو الآخر حتى ما كاد يقترب من نهاية القصيدة التي تزيد عن ثمانين بيتاً حتى صار مع الملك في مجلسه.

ـ لقد أبدعت أيها الشاعر.. وأنا أنصحك ألا تلقي بهذه القصيدة مرّة أخرى إلّا متوضئاً متطهراً..
فهذا كلام يعجز البشر عن الإتيان بمثله.
ولهذه المعلقة أهمية تاريخية، حيث جاء فيها ذكر المعارك التي وقعت بين تغلب وكنده، وتغلب والعباد، وتغلب وبني عتيق، وتغلب وإياد، وتغلب وتميم..
وبالطبع، فإن الحارث بن حلّزة شاعر بني بكر لم يأت على ذكر تلك الوقائع إلا لأن تغلب كانت مندحرة فيها.

و هي تزيد علي ٨٠ ثمانين بيتا نختار منها هذه الأبيات حيث يقول فيها الحارث بن حلزة :

آذنَتْنـــــــا بِبينهَــــــا أسْــــــماءُ

ربَّ ثــــاوٍ يُمَـــلّ منـــــه الثّــواءُ

آذنتنــــا ببينهـــــــا ثُـــمَّ وَلّـــتْ

ليـتَ شِـعري متـى يكونُ اللقـاءُ

بعــد عَهْــدٍ لنــا ببرقـــةِ شـــماءَ

فأدنـــى ديارِهَـــــا الخَلْصَـــــاءُ

لا أرى مَـن عهـدتُ فيهـا فابكي

اليــومَ دلهــاً ومـا يجيــرُ البُكــاءُ

وبعينيـــك أوقــدتْ هنــدٌ النــارَ

أخيــــراً تلـــوي بهَـــــا العَلْيـــاءُ

فنتنـــوّرتُ نارَهــــــا مــن بَعيــدٍ

بخـزارى هيهــاتَ منـك الصــلاءُ

أوقدتها بين العقيـق فشـخصين

بعـــودٍ كمــا يلــــوحُ الضيـــــاءُ

غيرَ أني قـد أســتعينُ على الهمِّ

إذا خــــفّ بالثــــويِّ النجــــــاءُ

وأتانـا مِــن الحــوادثِ والأنبـــاءِ

خطـــــبٌ نعنــى بـه وَنُســــــاءُ

إنْ إخوانَنـــــا الأراقـــمَ يغلـــونَ

علينــــا فـي قيلهِــــم إحْفــــاءُ

يُخلطونَ البـريءَ منّا بِـذي الذنبِ

ولا ينْفَـــــعُ الخلـــــيِّ الخــــلاءُ

زعَموا أنّ كلهَ مَن ضربَ العَيْرَ

موالٍ لنَا وأنّا الوَلاءُ

أجمَعــوا أمْرَهُـمْ عشـــاءً فلمـــا

أصبحـوا أصبحـت لَهُـمْ ضوضـاءُ

مِـن منــادٍ ومِـن مجيـبٍ ومـــِنْ

تصهــالِ خيـــلٍ خِـلالَ ذاكَ رُغـاءُ

أيهـــا الناطـقُ المرقــــــشُ عَنّــا

عِنْدَ عمِـــرٍ وهــلْ لِذاكَ بَقــــــاءُ

لا تَخَلْنــــا علــى غِراتِـــــكَ إنّــــا

قبـلُ ما قَـدْ وشــى بِنــا الأعـداءُ

فبقينـــا علـى الشَـــناءة تنمينــا

حصـــــونٌ وعــــزةٌ قعْسَـــــــاءُ

إنْ نَبَشْـتُمْ ما بيـن مِلحـةَ فالصــا

قــبِ فيــهِ الأمــواتُ والأحيــاءُ

أو نَقَشــتُمْ فالنّقــــشُ يَجْشَــمَه

النــاسُ وفيـه الصــلاحُ والإبــراءُ

أَوْ سَــــكَتُّمْ عنـــا فكُنّـــا كمَـــنْ

أغمَــضَ عَيْنـاً في جَفُنِهـا أقـذاءُ

أو مَنَعْتُــــم ما تُســـألونَ فَمَــنْ

حُـدِّثْتمــوهُ لـــهُ عَلَيْنـــا العــلاءُ

أيُّهـــا الناطِــــقُ المُبَلِّــــغُ عَنّـــا

عِنـد عمـرو وهَــلْ لِـذاكَ انْتهــاءُ

إنّ عمـــراً لَدَينـــا لَديْـــهِ خِـــلالٌ

غَيْــرَ شـــكٍّ فـي كلهــِنَّ البَــلاءُ

مَنْ لَنـا عِنــدَهُ مِـن الخيــر آيــاتّ

ثَــلاثٌ فـي كلهِــــنَّ القَضــــاءُ

آيـةٌ شــارقُ الشـــقيقةِ إذ جـاؤوا

جَميعـــــاً لكــلِّ حـــــيّ لِــــوَاءُ

حـول قيــس مُسْـتَلئمين بكبْـشٍ

قَرَظِـــــيٍّ كأنّـــــــهُ عَبْــــــــلاءُ

وَصَيِّـتٍ مــن العواتـكِ لا تنهــاهُ

إلّا مُبيضــــــــــــةً رَعْـــــــــــلاءُ

و بعد هذا العرض الموجز لفن المعلقات و المناسبة التي قد قيلت فيها ٠٠
لتثبت منزلة الشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة بين قومه و عند الملك ٠٠
و مدي عمق عبقريته الفنية و صدق رؤيته بين ظلال الحكمة و الابداع لتبق رسالة الشعر هي القول الفصل في جوهر القضية هكذا دائما ٠

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى