قصة

المرّشح (قصة قصيرة)

أحمد ثروت

المرّشح
1

مُعلّق بين انطواءات الماضي القريب ؛ و لم أكن هناك حيث روائح المدينة الضاحكة ، قدَميّ هواء فوق هواء ، و رأسي فراغات عديدة لا تملؤها ” كرابيج ” السخط و النصائح .. فلا الحلم اتضّح ، و لا الأفكار حفرت سُبُلها الواثقة..أٌلقي رأسي للخلف مرّات و لا أنفجر..لا أنتشي أو أموت كفأر رمادي .. لكنّي في الليل كثير النظر للنيل.. أرسمه أمامي حزيناً كدمعة بطيئة ..ظمآن لارتعاشات الحقيقة ، لون السماء أسود لا ينتهي ؛ حتى سور الكورنيش قد التصق بصدري ، دفن نفسه بين ذراعّي.. و لم يبتسم .. فهل يبتسم النيل و قد رآني حزيناً !! أهفو إليه دوماً ساجداً .. و لم أعبده إلاّ ليرد عليّ ؛ فلم يقبل سجودي ؛ و لم أنتحر ..في آخر ساعات النهار اتجهت قدماي نحو المشاية السفلى،جوار النيل لا أتوقف و لا أُسرع ؛ أخيراً أنا و هو وحيدين ..تحت أبخرة الأفكار الحامضة جلست ؛ فليس الطريق صديقاً ناصحاً ، و ليس سوى دماغي و النيل حبيبين .. ثملاً تمنيت نفسي ؛ أو قتيلاً .. ثم أعود ماحياً الحياة من بدايتها .. بادئاً من زاوية جديدة .. حيث أٌقٌبل قدم تراب قريتي المهجورة .. أمزج دمي و لحمي الطازج في هوائها .. ثم أٌفتت عظامي بين دروبها ؛ و أطمئن ………..
في هذا العالم .. حيث لا فرق بين أي شيء و أي شيء … بيني و بينكِ .. و حيث التقينا كنتِ كثمرة مانجو معطوبة … و كنتُ كالعادة متأخراً …………

2

متصلاً بماسورة صفراء بنية مسودة ؛ ضاربة في الأرض ؛ و محاطة بثلاثة أرباع مربع من الطين المتماسك .. قديماً قِدَم الدهر ..كان صنبور المياه الصدء .. و في الخلف الترعة كانت ساكنة ..على جانبها المقابل للقرية ترقد تلال من الطين و القاذورات و البلاستيك ..قد أخرجتها الكراكات الضخمة من المياه الراكدة .. كان الرجال يغسلون بهائمهم فيها .. نصف عراة .. أمّا الأطفال المتسخون فقد تعرّوا تماماً لينظفوا أنفسهم في مياهها الملوثة العكرة … يتقافزون حول الحيوانات و يمتطونها …يغطسون في النيل و يبقبقون حول ورد النيل المتناثر ..ينظرون بعيون باهتة نحو أمهاتهم الجالسات حول الصنبور ..كل واحدة تحمل إناءها الضخم .. تجلس حول ” المرّشح” .. كانوا ينظفون أوانيهم ليرى الآخرون بقايا طعام الأمس ¬¬¬¬_ إن كان ثمة بقايا_ إن كان ثمّة طعام _ ؛ و لا شيء يختفي في هذه القرية .. ينكشف المستور تماماً أمام هذا الصنبور الراكع في انحناءة ؛ و كأنّه إله نحيف يتحّسر على القرابين المُقدّمة .. كانت أمي تنتظر دورها مثلهنّ حاملةً إناءً ضخماً كحفرة .. فانتشرت الآنية الضخمة حول ” مرّشح” القرية …..

3

غالباً ما كنت أُشّكل نفسي كيفما أريد .. أصنع مكعبات و حروباً .. ثم أحشرها في دماغي .. فتخرج من فمي طلقات غاضبة .. لكنني احتضنت نفسي هذه المّرة طويلاً …و انتظرت …………

4

على سرير بالكاد يسع ثلاثة أشخاص بالطول … تمدد أبي و أمي و خمسة أطفال قذرين و فتاة كالربيع المغموس في طين لزج ..رقدت جوار أخي الضخم تحت السرير ؛ صاعدة عيناي من شقوق السقف الكثيرة .. كان الجميع مكدودون من حروبهم طوال النهار ..كان أخي في إجازة من جيشه ليومين اثنين .. الأوكسجين المشّبع برائحة الروث يملأ المكان حتى تُحسّ طراوته اللزجة .. و أنا فرجت ساقَيّ … دلّكت عضوي بهدوء .. غير عابيء بأخي الضخم النائم كقبر .. ثم احتضنت كوابيسي اليومية ..فكانت المشاهد مُغبّشة ككل يوم .. إلاّ جارتنا ذات المقعدة الهائلة .. أسكنتني بين ثدييها فانفجرت و تكوّرت و تجمّدت .. ثم نمت .. و الصباح المبّكر مظلم كالعادة … نمارس فيه طقساً كشعيرة وُزِّعت فيها أدوارنا بإحكام مؤامرة مجهولة ..
أضع الجاز في فتحة البابور حتى يندلق ؛ ثم يُشعله أخي فتَشُمُ طيناً برائحة الروث المعتق بالجاز .. بعدها يضع أبي الوعاء الكبير فوق البابور .. يُحركه منساباً حتى يسوّد قاعه تماماً .. و ظَهْر أبي المثني لا يستقيم أبداً .. بعدئذ تفعص أمي نصف حبة طماطم معطوبة ..تفعصها حتى تقتلها في الوعاء .. تمسح الإناء بها حتى يغمّق لونها ..تُسقط فوقها قطرات الماء و تُقّلب .. فيُسمع لها طشيش الزيت .. و تخبط بالملعقة فوق الإناء خبطات الطباخين المهرة .. حتى نكاد نحن المشاركين في المؤامرة الصغيرة نحسبها ملأت الوعاء من خيرات الله .. ثم تغسلها في ” المرّشح” وسط النسوة .. فيحسبن أنّ طبيخاً زارنا بأمس .

5

قالت لي أمي : ” ادخل حضن السما ، ينصرك رب الخلايق ، يكون ملاذك مِ العفاريت و ولاد الجناني ، و اللّي قلوبهم واجّه بالحقد و الحسد ، يمكن تلاقي الحب مصرور في السما ، تفكّه .. تبعتره ع الأرض تصبح سلام … يمكن تلاقيني السما ، فأوشوش قلبك بسر الحياه … تعجبك ……”
ثم وزّعت الرغيف علينا .. رغيف واحد لعشرة أفراد .. لا يُصمت الرغيف صرخات المَعِد الغاضبة .. إنه يجعلها تصرخ أكثر ..تعوي.. حين نأكل نزداد جوعاً ….
و حين وجدنا حصان جارنا النحيف طافياً فوق ماء الترعة .. قد انتفخت معدته تماماً … كانت أحشاؤنا ممزقة ..تزأر جوعاً …….

6

كان أخي الكبير الضخم يُشعل البابور المقدّس.. يُسّلك فتحات عينه الواحدة بإبرة سوداء عتيقة ، يمنحه نفساً ؛ ثم يلّف مفتاح الجاز يميناً و يساراً .. يعطيه نفساً ..يُشعل ورقة كبيرة فوق العين الضئيلة .. يُسّلك و يُشعل و يلّف المفتاح ..
حين غضب البابور من أخي الضخم نفخ في وجهه.. لفّه يميناً و يساراً … أحرقه تماماً قبل أن نجد خرقة تستوعب الجسد الضخم لتطفئه … يجب أن يلحق أخي بقائد الوحدة قبل ثلاث ساعات ..يجب أن يلعب طفل القائد الكرة ؛ و الولد لا يستطيع اللعب دون قائمي الهدف .. كانت الشجرة الصغيرة وكان أخي .. و لم يكن الولد يُصّوب بين القائمين أبدا ً… عرفت ساعتها لماذا كان أخي الصامت ضخماً كورم … لا تتوقف الكلمات عن السريان في جسد القرية …. تنساب أمام ” المرّشح ” و خلفه و من بين أجساد القاعدات …. و كانت صرخات أمي و أختي تئن تحت إبط القرية المشبع بالتراب ؛ قريتي بطعم التراب اللزج .. و أخي صامت بلا صرخة واحدة …الهواء مثقل برائحة البرسيم .. مُشّبع بأمراض الريف المشدودة من أعماق الأرض القبر . هل كان المكان فارغاً رغم الجثة المتفحمة التي أحاطها جلباب جارتنا ذات المقعدة الهائلة ،
الميكروفون البدائي فوق زاوية الصلاة الصغيرة يُعلن آخر المقبوضين .. الرجال منتشرون بجلابيبهم الزرقاء المتسخة .. النسوة سواد يُصدر صراخاً بلا نهاية .. و القش رطب .. الأطفال منكمشون في الجدار و دموع ملائكة الرب لا تغسل المكان … نهيق الحمير طغى على الصوات و الاستعاذة بالله ………
كان المكان فراغاً ………………………………… و كانت يدي باردة .

7

الليلة نجلس سوياً .. ترسم أجسادنا ابتسامات بلهاء .. و يتقّطع اللعاب تحت شفاهنا … لا ننظر لبعضنا أبداً … نضحك .. نبكي… و نطفو فوق القرية كجثة حصان جارنا ….
و لم ينتحر أبي و لم تشنق أمي نفسها … إلى المدينة الكبيرة ارتحلنا فلم يبق لنا شيء هنا …و لم يكن لنا شيء هنا ..
سوف تخيط أمي قلوبنا الغضّة ، لنعلم أن أيامنا ليست هنا .. و ستتفتح عيوننا على مدينة ضخمة … و أب زادت انحناءته رسوخاً .. يصرخ في صمت يضحك في بلاهة لكنّه يحمل أشياء كثيرة على قفاه ..و ربما لن نشعل ناراً بعد الآن و لن تذهب أمي إلى ” المرّشح ” أبداً .. لكننا حتماً سنصبح بلا قرية …..
فقط … سندين لأنفسنا بموقع آخر للانفجار ………………

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى