قصة

الطيف الخفي!

عروبة شنكان

صدى الشتاء موحشٌ، يبدده عواء ذئاب ترصد القطيع في هضاب الغابات!إنهم يجترون الحياة.
أجل، إنه الشتاء ومعه تحلو حكايات الجدة نهاية مساءٍ حافلٍ بالواجبات المدرسية، قرب المدفأة العتيقة التي كانت تجمعنا بينما المطر يطرق حواف النوافذ الخشبية، المفتوحة على الأرصفة الصاخبة بخطوات المارة من الطلبة والعاملين وسمار الليالي.
إنه موسم السكون بلحظة دفء، شاعرية تمنحك الرغبة بالكتابة، وتوصيف المشاعر بشئ من الرومانسية التي توقظها نيران المدفأة بقرب الطاولة الصغيرة التي كانت تحضن أوراقنا المليئة بمختلف الأحاسيس التي ترافق يومياتنا وتأملاتنا لاأدري كيف اِجتزت تلك التجربة العنيفة التي قلبت حياتي رأساً على عقب.
كانت تنتابني هذه الهواجس، بينما كنت أُقلب في الحاسوب بحثاً عن أخبارٍ جديدة تمتع مسائي الذي بدأ مع انتهائي من واجباتي المدرسية، لم أكن أرغب بالابتعاد عن الموقد الذي يكسر حواجز الصمت بطقطقة الخشب، وهي تلتهمه نيرانه المنبعثة من فوهته!
كان ينبعث في أرجاء الصالة دفئاً غير اعتيادي، معه أشعر باطمئنان وسرور، ورغبة ملحة بالكتابة، تناولت قلمي بين أصابعي لأبدأ أول سطرٍ من نثرية داعبت حروفها مخيلتي، ما إن بدأت بأول سطرٍ منها، حتى انقطع التيار الكهربائي ومعه سقط قلمي من بين أصابعي مستسلماً لصوت طقطقات الحطب في الموقد!
كانت الصالة مضاءة بلهب الحطب المحترق، بينما زخات المطر تتساقط قطرات قطرات، بتوازن مع ألسنة النار المنبعثة من حطب الموقد.بلوحة سردية تغري باستئناف الكتابة، ولو بشكل عشوائي، لم يكن أمامي سوى رسم الكلمات بمخيلتي ريثما يعود التيار الكهربائي لأعاود الكتابة، وأصف الصور كلمات موزونة، بإيقاع طروب.
فجأة سمعت طرقاً خفيفاً، على الباب يصحبه نباح كلبٍ، اما إن ابتعدت عن الطاولة باتجاه الباب لأستطلع ما الأمر شعرت بأن الطرق توقف، والصوت اِبتعد، لأعاود طريقي باتجاه طاولتي من جديد، وأُفاجأ بطيفٍ يتمايل مع لهب الحطب، توقفت متسمرةً في مكاني ودقات قلبي تفوق طقطقات الخشب عشرات المرات!
هل هو لص، أم شبح لص؟ واختلطت الصور أمامي، لم أعد أعرف أين مكان الشمع، أو أين وضعت المصباح، لعله شيء من رومانسياتي تعلق على جدار الصالة التي كلما ازداد لهب الموقد اِتسع حجم الكائن أمامي، ما إن مر بضع ثوانٍ حتى عاود الكلب نباحه، مع طرق خفيف على الباب.
ارتعشت أقدامي!لم أعد أقو على المشي أماماً أو خلفاً، وتلاحقت أنفاسي كان كل ما حول ساكن، سوى صوت الخشب وبصيص لهبٍ ينبعث من موقد الصالة، ودرجات الحرارة توالي انخفاضها، مع استرسال المطر في التساقط تباعاً!استجمعت قواي الخائرة، لأتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، على مايبدو التيار الكهربائي عاد لينير الشارع الصاخب لكن الرغبة بإحياء أجواء الرومانسية التي قادتني للاختيار الأحمق والجلوس مكتفية بلهب الموقد جعلاني أستبعد إنارة الصالة.
استلقيت مرتعشة، أمام الطيف الذي بدأ يتلاشى قليلاً قليلا، مع عودة النور إلى مصابيح الشوارع التي بدأت تعود إليها حركات المارة، نسيت نفسي أمام الوجوه التي بدأت تلوح في أفق خيالي، كانت خائفة كما وجهي الذي يتعقب الطيف الذي تلاشى أمام أنوار المصابيح المنبعثة من خلف نوافذ صالة المنزل.
استدرت بحرص شديد على أن لا أُصدر صوتاً، يهيئ شبح الصالة على اِلتهامي! وبحركة لا إرادية تخطيت خوفي لأجد نفسي واقفة أريد إنارة الصالة، كان قلبي كما مطرقةٍ تُعيد تشكيل قالبه!وقدماي ترتعشان كما قبضة يداي، ما إن أنرت الصالة حتى ارتطمت بالحائط، كان زمور سيارة جارنا المزعج، يعلن عن وصوله إنها تمام الثامنة مساءً وهو موعد حضوره إلى منزله المجاور لمنزلنا.
اِلتفتُ بكل هدوء، نظرت حولي باحثة عن الشبح الذي داهم الصالة، هل هو “طيف جدي الذي غادر الحياة منذ أيام”أو أنه طيفي الذي يبحث عن الأمان وسط العتمة! وضجيج الذكريات.لم تكن الجدران باردة ما فيه الكفاية لتشعرني برعشة فتتجمد أوصالي.تلمست صورة جدي ووالدي، كانا يبتسمان في لحظة عابرة، تحت الشمسية بينما كانت السماء تجود بمطرها.
كان كل شيء ساكناً، وكانت طاولتي بانتظاري لأبوح لأوراقي بمختلف ما شعرت به في لحظة عتمة، كان يطاردني بها شبح خلته من الماضي، فإذا به طيفي الذي انعكس على حائط الصالة، أمام الموقد الخشبي، أمسكت بقلمي الذي بدأ يسري بحبره دفء حنيني لتسطير أشجاني وذكرياتي. ومعه بدأت أستدني حروفي للكتابة وتوصيف الحنين معان سلسلة شجية تريحني من عناء ترقب طيفي الذي أرهق أنفاسي!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى