دراسات و مقالات

الشباب و الشيب بين أبي العتاهية و البارودي

السعيد عبد العاطي مبارك - الفايد

بكيت على الشباب بدمع عيني

فلم يغن البكاء ولا النحيب

فيا أسفا أسفت على شباب

نعاه الشيب والرأس الخضيب

عريت من الشباب وكنت غضا

كما يعرى من الورق القضيب

فيا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب ٠
( من قصيدة أبي العتاهية )
= = =
أَيْنَ أَيَّامُ لَذَّتِي وَشَبَابِي

أَتُراهَا تَعُودُ بَعْدَ الذَّهابِ

ذَاكَ عَهْدٌ مَضَى وَأَبْعَدُ شَيْءٍ

أَنْ يَرُدَّ الزَّمانُ عَهْدَ التَّصَابِي ٠
( من قصيدة شاعر السيف و القلم محمود سامي البارودي )
——-
في البداية أن الحديث عن الشباب و المسيب ذو شجون فالشاعر يصف لنا كل مرحلة عمرية بحلمها و حزنها معا ٠
فريصد ظاهرة الصبا و الشباب وزهره٠٠
كما يصور لنا الشيخوخة و الكهولة ٠٠
و تلك الحقبة الجميلة بكل القيم و المعاني دون تفريط الخيال خصب أيام الصبا و ذكريات عالقة بالذهن و الخواطر ٠٠
و تكلم الشاعر في كل عصر و مصر عن ظاهرة ( الشباب و المسيب ) في شعره في المشرق العربي و المغرب الأقصر حتي في الأندلس ٠٠

و من ثم نلمح شعراء كثر تكلموا عن الشباب و المشيب ٠ ٠٠
كيف يميل مثلك للظبا
وعليك من عظم المشيب عذار؟!

والشيب ينقص في الشباب كأنه

ليل يصيح بعارضيه نهار!

ولأن الشيب علامة العقل ورجاحته فها هو ابن المعتز يستنكر ويتعجب ممن يفعل السوء صغيرا أو شابا، ويعجب منه أكثر إذا غزا الشيب رأسه حيث يقول:
فما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به، والشيب في الرأس شامل؟!

وقد بكى الشعراء الشباب كما يبكون الأحبة، فها هو أحد الشعراء يبكي الأحبة والشباب معا معلنا أنهما أعز وأغلى ما يمكن أن يبكيهما الإنسان:

شيئان لو بكت الدماء عليهما

عيناك حتى يؤذنا بذهاب

لم يبلغا المعشار من حقيهما

فقد الشباب وفرقة الأحباب!

ويأتي الجاحظ ليعتب على المتصابين الذين لا يعطون لشيبهم حقه؛ فيقلدون الشباب في ملابسهم وتصرفاتهم مما يظهرهم بشكل أخرق:

أترجو أن تكون وأنت شيخ

كما قد كنت في زمن الشباب؟!

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ٠

ولم يخل ديوان الشعر العربي ممن ترحموا على أيام الصبا و الشباب ،
ابن الإلبيري (ت 460 هـ)، وقد أَبصَر أولَ شعرةٍ بيضاء؛ فارتاع لذلك، وأنذَر نفسَه بالموت، ونصَحَها ألا تستهين بالشيب، ولو كان في شعرة واحدة، وضرَب مثلًا مِن الطَّلِّ والمطر الغزير، والصُّبح الذي يبدأ بخيط أبيض، ثم يطوي سواد الليل؛ فنذير الشيب يؤذن بالأُفُول، ويؤثِّر في قوة المرء، ويحجبه عن نشاط الشباب، و هنا يتذكر الوقوف في نزعة صوفية متضرعا الي ربه عز و جل ، فيقول :
بَصُرْتُ بِشَيْبةٍ وخَطَتْ نَصِيلي

فَقُلْتُ لَهُ تَأَهَّبْ للرحيلِ 

ولا يَهُنِ القَليلُ عليك مِنْها

فَمَا في الشَّيب ويحك مِن قليل!

وَكَمْ قَدْ أَبْصَرَتْ عيناك مُزْنَا

أَصَابَكَ طَلُّها قَبْلَ الهُمُولِ

وكم عَايَنْتَ خَيْطَ الصُّبْح يَجْلو

سوادَ اللَّيْل كالسَّيف الصَّقِيلِ

ولا تَحْقِرْ بنُذرِ الشَّيب واعْلَمْ

بِأَنَّ القَطْرَ يَبْعثُ بالسِّيولِ ٠

فهذا أبو العتاهية شاعر الزهد العباسي يصور لنا الشباب و المسيب في صراع مرير ٠٠
و يتبعه في عصرنا المعاصر الشاعر المصري محمود سامي البارودي الوطني المخلص الذي تم نفيه خارج البلاد من قبل الإنجليز الي سراديب بعيدا عن الأهل و الأحباب و تراب الوطن المقدس في غربة نفس حقيقية فاختصر الذكريات في موازنة بين الشباب و المسيب أيضا في سرد تلقائي يجسد ملامح تجربته القاسية ٠٠
و من ثم هتلاقي القصيدة برغم البعد الزماني و المكاني من خلال منظور انساني ٠٠

* مع قصيدة أبي العتاهية شاعر الزهد و الحكمة و الفلسفة حيث يصور لنا عهد الشباب و الشيب و تطور الحياة مع حركة الإنسان في صف لنا تلك المرحلة و تعد قصيدته من عيون الشعر العربي ، يقول في مطلعها:
بكيت على الشباب بدمع عيني

فلم يغن البكاء ولا النحيب

فيا أسفا أسفت على شباب

نعاه الشيب والرأس الخضيب

عريت من الشباب وكنت غضا

كما يعرى من الورق القضيب

فيا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب ٠
***
مع بائية محمود سامي البارودي رب السيف و القلم أفضل من عبر عن الشباب و الشيب في الشعر المعاصر ، و هو في منفاه بجزيرة سرنديب يتذكر مرحلة الصبا و الشباب و هو في سن الشيخوخة بعيدا عن زوجته و أولاده و أصحابه و وطنه ، حيث يعيش لحظات الماضي من جزيرة الروضة بالمنيل و النيل و النخيل و المراكب و الليل الجميل ٠٠٠ فيقول في مطولته الرائعة :
أَيْنَ أَيَّامُ لَذَّتِي وَشَبَابِي

أَتُراهَا تَعُودُ بَعْدَ الذَّهابِ

ذَاكَ عَهْدٌ مَضَى وَأَبْعَدُ شَيْءٍ

أَنْ يَرُدَّ الزَّمانُ عَهْدَ التَّصَابِي

فَأَدِيرَا عَلَيَّ ذِكْراهُ إِنِّي

مُنْذُ فارَقْتُهُ شَدِيدُ المُصَابِ

كُلُّ شَيءٍ يَسْلُوهُ ذُو اللُّبِّ إِلَّا

ماضِيَ اللَّهْوِ فِي زَمانِ الشَّبابِ

لَيْتَ شِعْرِي مَتَى أَرَى رَوْضَةَ الْمَن

يَلِ ذَاتَ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ

حَيْثُ تَجْرِي السَّفِينُ مُسْتَبِقَاتٍ

فَوْقَ نَهْرٍ مِثْل اللُّجَيْنِ الْمُذابِ

قَدْ أَحَاطَتْ بِشَاطِئَيْهِ قُصُورٌ

مُشْرِقَاتٌ يَلُحْنَ مِثْلَ الْقِبابِ

مَلْعَبٌ تَسْرَحُ النَّوَاظِرُ مِنْهُ

بَيْنَ أَفْنانِ جَنَّةٍ وَشعابِ

كُلَّما شَافَهَ النَّسِيمُ ثَراهُ

عَادَ مِنْهُ بِنَفْحَةٍ كَالْمَلابِ

ذَاكَ مَرْعَى أُنْسِي وَمَلْعَبُ لَهْوِي

وَجَنَى صَبْوَتِي وَمَغْنَى صِحابِي

لَسْتُ أَنْسَاهُ ما حَيِيتُ وَحاشَا

أَنْ تَرانِي لِعَهْدِهِ غَيْرَ صَابِي

لَيْسَ يَرْعَى حَقَّ الْودادِ وَلا يَذْ

كُرُ عَهْداً إِلَّا كَريمُ النِّصَابِ

فَلَئِنْ زالَ فَاشْتِيَاقِي إِلَيْهِ

مِثْلُ قَوْلِي باقٍ عَلَى الأَحْقَابِ

يا نَدِيمَيَّ مِنْ سَرَنْدِيبَ كُفَّا

عَنْ مَلامِي وَخَلِّياني لِمَا بِي

كَيْفَ لا أَنْدُبُ الشَّبابَ وَقَدْ أَصْ

بَحْتُ كَهْلاً في مِحْنَةٍ وَاغْتِرابِ

أَخْلَقَ الشَّيْبُ جِدَّتِي وَكَسَانِي

خِلْعَةً مِنْهُ رَثَّةَ الْجِلْبَابِ

وَلَوَى شَعْرَ حاجِبَيَّ عَلَى عَيْ

نَيَّ حَتَّى أَطَلَّ كَالْهُدَّابِ

لا أَرَى الشَيءَ حِينَ يَسْنَحُ إِلَّا

كَخَيالٍ كَأَنَّنِي في ضَبابِ

وَإِذَا مَا دُعِيتُ حِرْتُ كَأَنِّي

أَسْمَعُ الصَّوْتَ مِنْ وَرَاءِ حِجابِ

كُلَّمَا رُمْتُ نَهْضَةً أَقْعَدَتْنِي

وَنْيَةٌ لا تُقِلُّها أَعْصابِي

لَم تَدَعْ صَوْلَةُ الحَوَادِثِ مِنِّي

غَيْرَ أَشْلاءِ هِمَّةٍ فِي ثِيَابِ

فَجَعَتْنِي بِوالِدَيَّ وَأَهْلِي

ثُمَّ أَنْحَتْ تَكُرُّ فِي أَتْرَابِي

كُلَّ يَوْمٍ يَزُولُ عَنِّي حَبِيبٌ

يا لِقَلْبِي مِنْ فُرْقَةِ الأَحْبَابِ

أَيْنَ مِنِّي حُسَيْنُ بَلْ أَيْنَ عَبْدُ اللَّ

هِ رَبُّ الْكَمالِ وَالآدَابِ

مَضَيَا غَيْرَ ذُكْرَةٍ وَبَقَاءُ الذ

ذِكْرِ فَخْرٌ يَدُومُ لِلأَعْقَابِ

لَمْ أَجِدْ مِنْهُما بَدِيلاً لِنَفْسِي

غَيْرَ حُزْنِي عَلَيْهِما وَاكْتِئَابِي

قَدْ لَعَمْرِي عَرَفْتُ دَهْرِي فَأَنْكَرْ

تُ أُمُوراً مَا كُنَّ لي في حِسابِ

وَتَجَنَّبْتُ صُحْبَةَ النَّاسِ حَتَّى

كَانَ عَوْناً عَلَى التُّقاةِ اجْتِنابِي

لا أُبالِي بِما يُقالُ وَإِنْ كُنْ

تُ مَلِيئاً بِرَدِّ كُلِّ جَوابِ

قَدْ كَفَاني بُعْدِي عَنِ النَّاسِ أَنِّي

في أَمانٍ مِنْ غِيبَةِ الْمُغْتَابِ

فَلْيَقُلْ حَاسِدِي عَلَيَّ كَمَا شَا

ءَ فَسَمْعِي عَنِ الْخَنَا في احْتِجَابِ

لَيْسَ يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ وَلَكِنْ

أَتَغابَى والْحَزْمُ إِلْفُ التَّغَابِي

وَكَفَى بِالْمَشِيبِ وَهْوَ أَخُو الحَزْ

مِ دَلِيلاً إِلى طَرِيقِ الصَّوابِ

إِنَّما الْمَرْءُ صُورَةٌ سَوْفَ تَبْلَى

وَانْتِهاءُ الْعُمْرانِ بِدْءُ الخَرابِ ٠

قد عشنا مع مرافيء الذكريات حيث الشباب و الصبا ، و الشيب حيث الشيخوخة ٠٠
و غربة الذات و الفكر و الوجدان و الوطن أصحاب و تراب ، و من ثم رسمها كل من أبي العتاهية الشاعر العباسي ، و محمود سامي البارودي شاعر السيف و القلم الذي مارس الوزارة و جرب الحياة و مأساة الغربة و النفي دون ذنب اللهم الا الدفاع عن قضايا تهم بني وطنه ضد المحتل البغيض ، و برغم أن كل قصيدة من عصر الا انهما يتلاقيان في المضمون بنفس المشاعر في بائية تجسد حجم المعاناة و غربة النفس غربة حقيقية عن الاهل و الصحاب و التراب ، هكذا كانت القصيدة بمثابة مرآة لحالة الواقع المرير الذي يعيشه كل إنسان مع المرحلة العمرية أضف الي متاعب الحياة و البعد عن الزمن و فكر الأجيال في فلسفة مختلفة شكلا و مضمونا دائما

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى