قصة

السيرة الذاتية لوحيد القرن

د.إيهاب بديوي

حلم هو أم حقيقة؟ حقيقة هي أم حلم؟ لابد مما لابد منه. ضرب لا وعيه بوعيه ليتقي سقوطا حرا من ارتفاع غير معروف إلى هوة لا نهائية. أفاق على صرخة مدوية هزت أرجاء السكون المحيط بفراشه الفقير محطم الزوايا والقائم بمعجزة مستندا على جدار متآكل تحت سقف خشبي ظل غذاءا لجماعات النمل سنوات طويلة حتى اختفت في ظروف غامضة ربما بعد أن امتصت روح المكان وقضت على الحياة فيه. أخذ نفسا عميقا ملوثا بعوادم السيارات القديمة المنتشرة أسفل نافذته المتهالكة والتي لا تمنع صوتا ولا تصد ضوءا ولا تعزل رائحة. لكنه اعتاد كل ذلك منذ آخر أزمة صحية حدثت له قبل اختفاء النمل بفترة بسيطة. سعل بشدة وهو يشعل سيجارة ملفوفة بمهارة من تبغ يخلطه بمواد خاصة جدا يحصل عليها من نواتج حفر النمل العضوية التي ما زالت تملأ بعض التجاويف بعد مرور كل تلك السنوات. كانت دائما سره الخاص وهو يدعو اقرانه ومحبيه لغزوة خروج من الوعي بفعل ذلك المكون الغامض. يقسم انه شاهد النمل يدخن في جوف الليل عدة مرات قبل أن يستجمع شجاعته ويطرد هاجس الجن المسيطر على العصور العقلية الشعبية ويتتبع مصدر الصوت والرائحة حتى وجد السقف يشتعل كل فترة محددة بفعل تجمع كبير للنمل في مكان واحد يتمتعون وحدهم بذلك الناتج الغامض. لم يقتنع بتفسيرات البعض ان ما يشبه النار هو في الحقيقة ناتج عن احتكاكات تجمعات النمل مع الخشب في محاولاتهم لاستخلاص مكوناته العضوية. أجمل لياليه أصبحت التالية على تجمع النمل الناري. يجد كتلة متميزة من النواتج يجمعها بحرص شديد ويضعها في إناء خاص ثم يقسمها على جرعات محددة كان يشارك فيها بعض أصدقاء. لكن مع هجرة النمل الغامضة أصبح يستأثر وحده بتلك الجرعات في ليال محددة. يغيب عن الواقع الذي يزداد ضبابية كلما ظهر الشعر الأبيض في مكان ما بجسده. لم يعد يشاركه في غرفته القديمة احد منذ توفيت والدته قبل هجرة النمل بعام تقريبا. ولم يعد يفضل الخروج منها بعد أن اختفى أنفه وظهر مكانه نتوء عظمى عجيب بعد اختفاء النمل بعام تقريبا. لم يعد يطيق نظرات الناس المتعجبة. كانت متعجبة بشدة على حاله وهو طبيعي مشدود القوام وافر الشباب غزير الأحلام. فكيف به بعد أن هزل جسده وغادره شبابه وهاجمته شيخوخة مبكرة بمصيبة ليس لها من قبل مثيل. لم يعد يخرج سوى منقبا كالنساء الذين كان يخشاهن وهو صغير. تلك العباءة السوداء التي تخفي خلفها غموضا مرعبا ونظرات تحمل جميع التأويلات الممكنة لشاب صغير ليس منها تأويل إيجابي واحد. هاهو يلجأ إلى ذلك الرداء الخافي لما في داخله ليتلافى أسئلة لا يجد هو نفسه إجابة عنها ولا اي طبيب ذهب إليه. هي علامة غول من الجن اختار جسده ليكون وسيلته للتواصل مع العالم. ضحك من هذا التفسير المذهل لجارة عجوز تقطن غرفة مجاورة في البيت القديم المتشابه للوقف الخيري لمذنب ما يريد تطهير أمواله المسروقة..حتى ظهرت بقايا أسنانه السوداء وانهمرت سوائل خضراء من فمه الكبير. هل ذلك الغول ضعيف النظر أم مجنون حتى يختار جسدا ضعيفا يائسا محبطا ليسكنه ويخترق بقرنه العجيب معالم وجوده الهامشي. انتصب على فراشه يحاول الوصول إلى السقف ليستخرج جرعة من بقايا النمل التي وجدها بعد أن نفذ مخزونه مصنوعة في جوانب مختلفة من السقف وكأن النمل لم يشأ أن يهجره قبل أن يترك له مخزونا يكفيه ما تبقى من عمره. هل علم النمل بالتحديد كم سيطول عمره فترك له الكمية المناسبة حتى يموت؟ هاجس هاجمه فجأة وهو يحاول تتبع المجموعات المتبقية ليحسبها ويقسمهاعلى معدل استهلاكه فيعرف ما تبقى من عمره. هل هناك علاقة بين القرن العجيب وعجينة النمل؟ هل استطاعت تلك المخلفات الغريبة التسلل إلى جيناته واختصار حياته في ذلك القرن الذي يزيد حجمه بصورة مضطردة ويأخذ من تكوينه العظمي. جلس على فراشه يحسب المعادلات المختلفة بين معدل نمو القرن والمتبقي من الخلطة السحرية وامتصاص قوته المتسارع. أطلق ضحكة مدوية وقد وصلت حساباته إلى نتيجة أخيرة. أكدتها رؤيته للنمل من جديد يتجمع بأعداد كبيره في كل مكان في السقف ثم يبدأ في التساقط عليه حتى غطى جسده كله. لقد كان هو في ذاته مصنعا لتخليق الحياة للأجيال الجديدة من النمل. ربما اختفت في حياة ضحية أخرى ثم ظهرت في الوقت الذي احتسبته تماما لنضوج مادة حياتهم في جسده..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى