دراسات و مقالات

الدلالة الوجودية في نص الشاعر جواد الشلال البياض بقلم / حسين الساعدي

 البياض
..
صغيرة تلك الأفكار ، التي تنام تحت ابط المعنى ، تأكل قلب الفجر ، تعطس سوادا مقلوبا …
كل صحف ” الدفتر ” تنام راكدة تشبه جهدا لا معنى له ، أين المفر من اللامعنى ،
دون بصيرة ، دروب عطش قديم ،
أزقة خاوية ، مكفهرة ، تضحك أسنانها مصبوغة باصفرار ، عتيق ….
بياض
بياض
بياض
وصية … بياض

*****
أن قراءة أي نص شعري يضعنا أمام خيارين ، أما النظر الى جوانبه الفنية وتركيبته اللغوية ، النحوية والبلاغية ، أو البحث عن مدخل مغاير يكشف عما يحمله النص من رؤى ، وما يختزنه من دلالات كاشفة عن الأطر التي تحكمه وتحركه .

(تنام تحت ابط المعنى)
(تأكل قلب الفجر)
(تعطس سوادا مقلوبا)
(جهدا لا معنى له)
(أين المفر من اللامعنى؟)
(دون بصيرة ، دروب عطش قديم ،
أزقة خاوية ، مكفهرة)
(بياض / بياضه/ بياض/ وصية … بياض)

تشكل هذه المفردات القلق الوجودي والاغتراب عن الواقع والبحث عن المعنى في زمن اللا معنى .
(اللا معنى) هو وصف للنصف الأول من القرن العشرين ، نتاج أفرزته الحربين العالميتين الأولى والثانية من مآسي وكوارث ألمت بالإنسانية ، مما أنعكس ذلك على مجمل الحركة الفكرية والثقافية في الأدب والفن والفلسفة ، حينها لم تبق للوجود الإنساني أي معنى ، مع تأكد العجز والإيمان باللا جدوى في مواجه الإنسان قدره أمام عبثية الحياة . أحدث هذا الشعور إشكالية مخيفة ، وأدخل الإنسانية في نفق مظلم ، زعزع قناعات الإنسان في إيجاد حلول ناجعة للمشاكل التي خلفتها هذه الحروب . الشعور بـ(اللا معنى) في الحياة ، كان له الأثر ونواة أولى في أظاهر التفلسف الوجودي الى العلن ، ومن ثم تشخيص أمراض المجتمع (السأم/اللا معنى/ اللا جدوى/ اللا معقول/ العبثية …) التي تعني اللا إنتماء واللاشيء ، مما أصابت الإنسان والمجتمع بالعجز ، وسقوطه المرعب في هاوية (اللا معنى) . أذاً الوجودية مثلت حالة (أغتراب المعنى) عند الإنسان وكينونته . فشكل هذا المعنى مرتكزاً لـحالة (الأغتراب) و (القلق) الوجوديين ، وأقترنت بفلسفة الفوضى والعدمية .
لقد وظب الشاعر “جواد الشلال” (اللا معنى) في نصه بمجمله وليس بجزئية (جهدا لا معنى له) أو (أين المفر من اللامعنى؟) ، فهو – النص -(يرقى الى بلاغة التورية والاستعارة والكتابة الرمزية) . فـ(اللا معنى) طاقة تعبيرية ورمزية عالية و(أستفراغ كلي لكل جدوى إنسانية أو أخلاقية) ، أن صيغة (اللا معنى) تستحوذ على صيرورة النص الشعري ، فتفرض حالة تأملية داخل النص . ونفي المعنى له دلالة مرتبطة مع موجودات النص الأخرى الدالة على الضعف الإنساني أمام قوى (اللا معنى واللا جدوى واللا معقول) . والشاعر يتدارك هذا المعنى ، لغرض تثبيته وفق ما يريده ، لإنه يعني شيئاً بهذا النفي . فأي محاولة تأويلية في تحديد فهم لحالة (اللا معنى) ، لابد أن ترتكز على حالة النفي هذه .
يثير الشاعر “جواد الشلال” سؤال وجودي قائم على رؤيته بنسق رمزي ، متسائلاً (أين المفر من اللامعنى؟) وهو (سؤال المعنى في زمن اللامعنى) ، كعنوان تعيشه الإنسانية ، في شرق الأرض وغربها ، نتيجة الفوضى الذهنية .
أن تشبث الشاعر بـ(اللا معنى) يستند الى واقع مجتمعي معاش مأزوم ، يجسد حالة (اللا معنى) في عدم وضوح الرؤية والقدرة على إستيعاب وفهم الواقع وإيجاد معنى وهدف للحياة ، وهي رؤية سريالية بالنسبة الى الشاعر ناتجة عن عدم وجود موجه ضابط مجتمعي للسلوك والفكر .
يتميز الشاعر “جواد الشلال” بشاعرية سريالية تتيح له (الهلوسة الفكرية) الرائعة في نصوصه ، وهي أنعكاس للعقل الباطن أو اللا شعور . أن الرمزية صفة ملازمة لأغلب نصوص الشاعر “جواد الشلال” ، فهو يعتمد الإستخدام الرمزي في تركيب النص الشعري ، بل هو (غابة من الرموز) على حد تعبير بودلير . وميله الى الإيجاز والأختزال في ألفاظه .
في نصه هذا يخرج الشاعر “جواد الشلال” عن حالة الأسترخاء التي عرف بها ، فيحتدم عنده الصراع بين الوعي واللا وعي ، المعنى واللا معنى ، الواقع والخيال ، والشعور بالعبثية ، فيكتب بـ(موقف أنفعالي) تنفيساً عن ذاته . وهذا نابع من حالة (القلق الوجودي) ، الرافض لواقع مؤطر بالألم والحزن والمرارة .
يرى النقد الحديث (أن هناك بنية نفسية وسياقاً عاماً وراء أي خطاب لغوي ) “تحليل الخطاب الشعري” ، د. محمد فتاح ، ص٧٠ ، والرؤية العامة في نص (البياض) تشير إلى كون النص سريالي حداثوي ، بل هو شطحة خيال واسع ، كـ(شطحات الصوفية في صمتها عندما لا تريد أختزال العمق الوجودي كـ(حراك فلسفي) ضمن دائرة المعنى) . أن للنص مسار يختلف عن المسار القرائي وكلا المسارين هما نتاج فعل سيكولوجي إجرائي يمارسه الشاعر والمتلقي في إعادة أنتاج النص .
ولو وضعنا النص تحت مجهر القراءة الأستنطاقية بمستوى تفكيكي لغوي لنسق كتابي ، قد تكون هذه القراءة ، لغوية أو فلسفية وحتى نفسية ، تستطيع أن تفتح مغاليق النص ، وتكون مدخلاً حيوياً لبواطن النص المكتوب ، لأن النص المكتوب هو فعل ومنتج ذهني مبني ومحكوم وفق رؤى متعددة ، يمكن أن يؤدي إلى أستنباط نص جديد يعتمد في تكوينه على قراءة مستقلة عن النص الأول المكتوب .
“جواد الشلال” قبل أن يكون شاعراً ، هو قارئ جيد لنصوص شعرية ونثرية ، عالمية ومحلية ، يأتي إلى الكتابة وذاكرته تختزن مرجعيات شعرية متعددة ، ورؤيته في النص هو أستكشاف ذاته وأعماق لا شعوره ، والأشتغال على المخزون الرمزي لديه ، ولهذا نجد نصه فيه رمزية الى حد يختزل الجملة الشعرية بلفظ ، فاللفظ عنده لم يعد له مدلول ثابت .
(البياض) يبدأ من عتبة النص ذات البعد البصري والرمز السيميائي ، والذي شكل بوابة دلالية لجمالية المعنى الشعري من خلال الأختزال اللغوي المكثف والبوح عن المشاعر والأفكار ، وبؤرة تتفرع الى دلالات أخرى ، ويمكن أن تطرح مقاربة بين دلالة العنوان وبنية النص الشعري ، من أجل الكشف عن المحتوى الفلسفي المستند على (الأفتراضات الوجودية) للفهم الشامل للدلالة النصية .
ان مدلولات كل لون تكون ذات صلة كبيرة بالنفس الإنسانية ولها مدلول فلسفي وروحي وجمالي ورمزي و معرفي مميز . و(البياض) له رمزية وخاصية في صنع الدلالة ، فهو في السياق الدلالي العام (رمز للصفاء ، ونقاء السريرة ، والهدوء و الأمل ، وحب الخير والبساطة في الحياة وعدم التقيد والتکلف) ، “علم عناصر اللون” ، فرج عبو ص١٣٧ . وقد ينظر الشاعر الى اللون الابيض بمنظور مغاير لمدلوله ، إذ يدل في بعض الأحيان على الموت كـ(بياض الكفن) . و (ينحرف أحياناً في بيئات وأمکنة وأزمنة وأوقات معينة الی معانٍ تناقض تلک المعاني التقليدية وتقف علی الضدّ منها تقريباً ، فهو مثلاً رمز للحزن لدی بعض الأمم … علی النقيض من دلالته علی الفرح والبهجة والسعادة عند الکثير من الأمم الأخری ) ، “اللون لعبة سيميائية” ، فاتن عبدالجبار جواد ، ص 44
شكل النص حالة من التضاد مع النظرة السوداوية للواقع ، فمناداة الشاعر للبياض هي وصية لواقع مؤلم محزن وصدى لنفسه .
أخيراً النص يمكن أن يقرأ أكثر من قراءة ، من قبل قارئ له دراية في أستنطاق مكنونه .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى