قصة

الخُروجُ من القَبْو

أحمد عثمان

كالحِممِ تنطلقُ زفراتُهُ من بركان رأسه المصدوع .. تتصلَّب يدُهُ المعروقةِ تدقُّ الطاولةَ بغضبٍ عارمٍ، ثم يُطيحُ بالكأسِ والزجاجةِ .. ذهولٌ صادمٌ ينتابُ صُحْبتَه على الطاولاتِ المتناثرةِ حوله .. صرخةٌ عاتيةٌ حبيسةٌ في قرارٍ سحيقٍ ـ بعُمق السنين ـ تتحررُ من أسرها، تهتزُّ لها الأرجاءُ وهو يلوِّحُ بيدهِ النازفةِ:
ــ إلى متى .. إلى متى ؟!
قشعريرةٌ محمومةٌ تُزلزِلُ أبدانًا فارغةً كأنَّها خُشُبٌ مُسنَّدةٌ .. عيونٌ زائغةٌ تترقبُ، وماءٌ أسودٌ يندفعُ من الرؤوسِ ينساحُ فوق عفنٍ مُقيمٍ؛ يزْكُمُ عتْمةَ المكان ..
يهبُّ واقفًا كالصاري، وقد انتفختْ أوداجُهُ واختلجتْ، واستعرتِ الدماءُ في وجههِ، وشررٌ يقْدَحُ من عينيه، فيروغُ إلى الطاولاتِ وماعليها يُفتِّتُها تفتيتًا، ويُطاردُ العناكبَ والخفافيشَ المستعمِرَةَ السقفَ والأركان من زمنٍ طال .. زئيرهُ لاينقطع ، يتصاعد لأعلى الدرجات، ثم يهبط، فيتخافت بطيئًا؛ لينتهي إلى صمتٍ ثقيلٍ .. همهمةٌ هي مزيجٌ من شجنٍ ورثاءٍ ينتظمُ لحْنًا هادئًا حانيًا؛ مايلبث أن يفورُ هادرًا مختلطًا بدفقاتِ غضبٍ تصاحبه حتي ذروته:
ــ أفيقوا للأمر .. وداعًا للخمر ..
تشتبك معه الجموعُ مرددةً ..
يتقدَّمهم، يتدافعون من القبوِ المُظلمِ أرتالاً إلى البراح الرحيب، يستنشقون هواءً طازجًا، ونسماتٌ ندِيَّةٌ تداعبُ الوجوهَ الشاحبةَ؛ فتعيدُ لصُفرتِها الحياة .. كالخيلِ يركضون، وصهيلُهم يترددُ في الأنحاءِ، يُطيِّرون السُروجَ واللُّجُمَ وراء ظهورِهم، وبصدورٍ عاريةٍ يمتطون النَّقاء، بينما يخترمُ الهلعُ قلوبَ المَرَدَةِ السوداءِ؛ فيولُّونَ الأدبارَ أمام الزَّحفِ شراذمًا تتساقطُُ على المدَى صرعَى ..
خلف التِلالِ البعيدةِ تتوارَى ذئابٌ متحفِّزةٌ للانقضاضِ، تُرسلُ عيونَها المتقدةَ بالشررِ؛ تترصدُ لحظةَ غيابٍ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى