قصة

أم أحمد ….. الخبازة

فوز إبراهيم

تستفيق مبكرة كل صباح.. تصلي الفجر وتتمتم وهي رافعة كفيها الى السماء بكلمات الشكر لله … والدعاء بالخير والتوفيق للأبناء، تطوي السجادة وتذهب لتشجر التنور كي تخبز العجين الذي عجنته البارحة وغطته بقطع الصوف فاختمر وصار جاهزا للخبز..ما إن يبدأ التنور بالأشتعال حتى تُسرع لأيقاظ أولادهابكلمات الطيبة والحنان ، تبدأ بفاطمة ذات العشر سنين التي تُسارع لتتوضأ وتصلي ركعتي الفجر ،ثم تتناول قدراً موضوعاً على دكة اسمنتية قرب باب خشبية تُغلق على حضيرة صغيرة فيها بقرتهم الوحيدة وعدد من الدجاج والصيصان ،تفتح الباب الذي يصدر صريرا عاليا.. وتدخل لتحلب البقرة .. يتكرر الصرير اثناء خروجها ويغتنم الفرصة بعض الصيصان ليغادر الحضيرة يهز كلبهم الصغير ذيله ويقفز نابحا وطاردا الصيصان الى الحضيرة مرة أخرى … تتم فاطمة عملها في غلي الحليب وتجهيز الفطور .

التنور يلتهم الحطب سريعا تعلو طقطقة أضلع الخشب وهو يقاوم النار ، تلقمه أم أحمد المزيد من السعف الجاف الذي يلتهمه بشهية بالغة ، تنتظر أن تهدأ النار كي تضع الأقراص التي رصتها في صينية مرشوشة بالطحين تأخذ القرص تبططه بين راحتي كفيها ، تضعه على وجه صرة دائرية من ليف النخل مغطاة بقطعة قماش نظيفة ،مرطبة بالماء ، كلما صفقت واحدة على صدر التنور قالت : بسم الله الرحمن الرحيم

الوجبة الأولى من الخبز دائما تكون لأفطار أولادها …

بيتهم كان من الطين سقفه من جذوع النخل بنوه لبنة لبنة … غرفتان تكدس فيها الجميع ، في الزاوية اليمنى جزء اقتطعوه حضيرة للبقرة والدجاج ، الزاوية اليسرى كانت مطبخا يحوي طباخا صغيرا وبعض أواني وقدور الطبخ ،قرب باب المطبخ بعض البراميل البلاستيكية لخزن الماء النظيف ودورة مياه بدائية ،هناك حوش كبير يحيط به سور من اللبنات ، وفي الركن المطل على الشارع يقبع التنور  وبجانبه كمية كبيرة من الحطب ، باب الدار حديدي قديم مشبك وضعوا عليه ستارة من القماش المتين لسد فتحاته كي لايرى المارةشيئا من داخل الدار.. الأرض التي بنوا عليها دارهم يملكها سيد رحيم الجار الملاصق لهم والذي كان والدهم يشتغل فلاحا بأرضه ، سمح لهم بالبناء شرط أن يتركوا الأرض متى ماطلب منهم ذلك فكان صاحب فضل كبير عليهم وزاد من فضله أن مدّ لهم سلكا للكهرباء يضيء لهم مصباحا أو مصباحين  ، وأعطاهم مروحة أرضية قديمة لينعموا ببرودة الهواء ظهر الصيف أما ليلا فكانوا يفترشون بطن الدار ويلتحفون السماء،بعد فرض الحصار شحت الكهرباء وأصبح الأهالي يعتمدون على المولدات ، استغنت الأسرة عن المصباح والمروحة وعادوا للأضاءة بالفانوس والتبريد بمروحة القش اليدوية لأم أحمد الخبازة ثمانية أبناء خمس أولاد إثنان في المرحلة الثانوية ، وآخران في المتوسطة ،والصغير وعمره عامان يلاحقها اينما ذهبت يتعلق بتلابيب ثوبها حتى وهي تخبز وتبيع الخضار لايزال يرضع من صدرها وهي لاتريد فطامه لأنه في نظرها لايزال صغيرا على الفطام كبيرهم أحمد سيتخرج هذه السنة من المرحلة الثانوية ،يطمع بمعدل يدخله كلية الطب … مجتهد جدا ،مؤدب ،  نهارا يدرس قرب النهر تحت سدرة النبق الغافية على شاطئه أحيانا يتسلق أغصان السدرة ليأكل من ثمرها اللذيذ وهو يدرس وليلا يتكور حول الفانوس مسترخيا على حصيرة من السعف يكمل دراسته وإن أخذته غفوة فزّ مرعوبا كمن عضته أفعى ليرش الماء على وجهه ويكمل القراءة .جمع أحمد مبلغا مناسبا من عمله بعد الدراسة يوميا كعامل بناء وأتفقت معه أمه أنها سوف تزيد له المبلغ إن حصل على المعدل المطلوب لدخول كلية الطب كي يشتري الكتب واللوازم الباهضة الثمن ومن يومها وهي توفر له مبلغا لذلك. لها ايضا ثلاث بنات زوجت منهن اثنتين… وبقيت الصغيرة فاطمة تعينها في عمل البيت وخدمة أخوتها ،مايجذب النظر الألفة ، والمحبة ،والتعاون الكبير بينهم جميعا … فهم يساعدون أمهم في توزيع الخبز وجلب الحطب والماء والخضار الذي تبيعه في السوق ،يتناوبون الدراسة والعمل ويرفعون هذه المسؤولية عن أخيهم أحمد لأنها سنته النهائية وهي حصيلة جهد كل السنين الماضية.فاحت رائحة الخبز ،في السادسة تماما فتحت الجارة أم علي شباكها المطل على بيت أم أحمد ،التفتت هذه والأبتسامة المعهودة على شفتيها …

ـ صباح الخير الخبز جاهز كنت سأطرق الباب الآن

ـالحقيني به… لا أحتمل رائحة خبزك الشهية …. نازلة لأفتح الباب حالا

تعبر أم أحمد الشارع الضيق لتسلم جارتها كمية من الخبز وتسألها ان كانت بحاجة لشيء من الخضار …..

ـ اريد باميا وطماطم حمراء الحاج أبو علي اليوم يريد باميا على الغذاء

تضحك الاثنتان …تغلق أم علي الباب وتقتطع كسرة خبز تلوكها بشهيةوهي تقول:

ـ لا أحديخبز الخبز مثل أم أحمد

تضع الخبز على مائدة الفطورالتي يجلس اليها زوجها متصفحا أخبارجريدة اليوم ويعلق على اخبار العالم المليئة بالحروب والأمراض، وهي تستمع اليه وتتحرك هنا وهناك لتعد الفطور صوت فيروز يصدح يرافقه تغريد بلبل في قفص معلق على الحائط يتقافز صاعدا هابطا بأنتظار وجبة الصباح … يقطع ابو علي جزء من ثمرة خيارفي صحن على المائدة ويتجه الى قفص البلبل الذي يحاول اخراج رأسه من بين القضبان الخشبية للقفص وما ان يضعها الحاج له حتى يهبط مسرعا ينقرها بشراهة فقد تعود على هذا الفطور الصباحي من يد صاحبه:

ـ يقولون أطعمه فلفل حار كي يغرد

ـ سأطعمه لك اذن لتغردي لي … فأنا أعشق تغريدك

تعلو القهقهات وهمسات الغزل ، وهما يتناولان الفطور… وتودعه بقبلة عند الباب وهو يوصيها بأن تطبخ له الباميا بلحم الضأن،وتنشغل بتنظيف المائدة وهي تدندن مع فيروز … لايزال الحب مستعرا بينهما قويا متينا متجددا ،تزوجا بعد قصة حب طويلة عارض فيها الأهل وأصرا هما على الزواج من بعضهما وهاهي ذي السنة العاشرة … وحبهما يكبر وتمتد جذوره عميقا في قلبيهما … لم يرزقهما الله طفلا ولقب ابو علي كان يطلق عليه قبل ان يتزوج وبقي مرافقا له بعد الزواج.دأبت أم علي على تهوية البيت وسقي زرع الزينة الذي يملأ البلكونة وأركان البيت ويتدلى حول الشبابيك بعد ان اكملت ترتيب البيت … دلفت لغرفة هند أخت زوجها والتي تسكن معهم بعد وفاة والديها مازحتها وسحبت عنها الغطاء والأخرى تتململ  …ثم راحت صوب الشباك فتحت الستارة وفتحت بابيه على مصراعيهما … فدخل الهواء ونور الشمس .. صاحت هند بضيق:

ـ اووووووه ارجوك اغلقي النافذة والستارة اريد ان أنام

أخذت أم علي وسادة ورمتها بها:

ـ قومي فات وقت النوم ..اعملي شيء يفيدك مارسي الرياضة مثلا قبل ان تملئي معدتك … الا تلاحظي ان وزنك بازدياد

وفي نظرة خاطفة للشارع صاحت:

ـ تعالي إنظري لأم أحمد الخبازة تحمل الخضار على رأسها ذاهبة للسوق … ماشاء الله عليها كم هي نشيطة

وهل تريدينني أن أحمل الخضار على رأسي ابيعه في السوق-

ـ تعرفين اني لا أقصد ذلك ما أقصده لاحظي نشاطها وخفتها ورشاقتها وغاري منها…. تعلمي منها

اوووووف نهضت بكسل بالغ يثقلها اللحم المتكدس في بطنها وردفيها …. عقصت شعرهاخلف رأسها بأهمال ثم اتجهت للنافذة وعيناها تتابع سير أم أحمد للسوق ..

ـ يالها من إمرأة جبارة …. لا أدري متى تستريح كالنحلة دائما تلف وتدور

ـ أنا اقدرها واحترمها هي امرأة مناضلة تجري على أيتام بعد أن استشهد زوجها … تحملت مسؤولية كبيرة كانت المسكينة حامل في صغيرها  المتعلق بها دائما حين انفجرت في السوق عبوة ناسفة لم يعثروا الا على بعض اجزاءه أنا ياهند أعتز بكفاح هذه المرأة استطاعت بصبرها وقوة ارادتها أن تربي أولادهاأحسن تربية ماشاء الله جميعهم متفوقين هل تدرين انهم يدرسون على ضوء الفانوس وينجحون بتفوق

وأنت كل شيء متوفر لك ورغم ذلك رسبتِ وانفصلتِ من المدرسة …. تنتظرين العريس ….إعلمي ان العريس هذه الأيام لا يأتي الا للمثقفة صاحبة الشهادة والعاملة .. التي تساعده في توفير متطلبات الحياة العصرية …. ويريدها ايضا رشيقة لا كما أنت …….

ـ أنا هكذا … من يريد الزواج بي يوفر لي كل طلباتي … يقبل بشروطي …. يرضى بي كما أنا

هزت يدها أم علي مستسخفة كلامه

ـ لقد انطفأت الكهرباء الوطنية …. سأذهب لتشغيل خط المولدة … رتبي سريرك وتعالي لتفطري سخنت لك الشاي

ـ أنا جائعة فعلا وأحتاج طعاما دسما

ـ أكيد ليزداد وزنك أكثر .. اذهبي للتسوق أو لزيارة احدى صديقاتك … المشي رياضة جيدة لحرق السعرات وتذويب الشحوم سوف تنفجرين لو استمريتِ بهذا الأسلوب في الأكل والعيش ….

كانت علاقتهما جيدة …. وأم علي تحبها وتشفق عليها لأنها يتيمة ولكن تلوم عليها كسلها وإهمالها وعدم قابليتها التعلم في المطبخ أو أعمال البيت الأخرى .

طرقات متوالية على الباب لقد أحضرت أم أحمد الباميا والطماطم

ـ انتقيتها بنفسي ناعمة كما طلبها الحاج فقد مر علي صباحا وطلب ان تكون ناعمة وصغيرة  …. ادعي ياأم علي لأبني أحمد غدا تظهر نتائج الأمتحانات إدعي له ان يحصل على المعدل المطلوب ليدخل كلية الطب

هبت هند من مكانها على المائدة وراحت تتدحرج ناحية الباب وهي تحاول ابتلاع لقمتها

ـ ماذا ؟ ماذا ؟ ماذا ؟ كلية الطب …. إبنك يدخل كلية الطب  …. ابن الخبازة يصبح دكتور

ـ ولماذا لا يا ابنتي هل دراسة الطب مقصورة على الأغنياء …. هل عقلهم غير عقلنا نحن الفقراء … لقد درس وتعب على ضوء الفانوس لم يكن ينام … المسكين أصبح كالشبح ….

صاحت بها أم علي وهي تضرب كفاً بكف

ـ اذهبي واكملي فطورك …لله في خلقه شؤون

ـلاتزعلي أم أحمد هي لاتقصد طيبة وعلى نياتها …. لكن لسانها … اووووووف

ـ المهم ادعي له … إدعي لأبن الخبازة

ـ سأدعو له … وله عندي هدية قيمة إن جائني بالبشارة

وفي عصر اليوم التالي …. زغاريد في الشارع المقابل لبيت الخبازة …الجيران متجمعين هناك … البعض يحمل أكواب العصير  وآخرين أكياس الحلوى … فتحت أم علي الشباك …خيرا إن شاء الله … أحمد يحمله اصحابه على أكتافهم فرحا متهللا فقد حصل ابن الخبازة على معدل عال يدخله كلية الطب … فتحقق بذلك حلمه وأمل أمه الخبازة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى