قصة

أحلامٌ وذباب

عبدالكريم الساعدي

انقضى يوم آخر، عيناه الغائرتان في كهف الأسى مازالتا معلّقتين في سقف القاعة، ظلمة شاحبة تقرع المكان، تحمله على براق لحظة صمت مغلّفة بأحلام عاقرة، سحاب لا يمطر، كلّ شيء حوله يبدو باهتاً، ضنيناً، حاول أن يرتّق أحلامه المبعثرة عند أطراف سريره، بعدما أخذته رعشة خفيفة، تغصّ بلهاث شهوة عوالم وهمية، إلّا أنّ طنين ذبابة ماردة أطفأ ذلك الشعاع الهارب من حلكة ليله، امتطى غضبه وأطلق سيلاً من اللعنات:
– في الصباح قصف الطائرات ودوي المدافع، وفي الليل الذباب!
التفت حوله، جميع رفاقه يغطّون في نوم عميق، إلّا هو، ابتلى بأرقٍ متجدّد، مرّت ساعات يتوسل نومه، الأبواب موصدة، الظلمة تمخر عباب عينيه المعلّقتين في سقف الأوهام، وما من طيف يمرّ، ولا صورة تجوس ظلّ ذاكرته الهرمة، الصداع يتسلّل إلى رأسه، الذبابة الماردة ما زالت تدور بين الحين والآخر حوله، ترصد صمته، ترشقه بوابل من طنين، قفز من فراشه مذعوراً، يداه تلاكمان الهواء، الفراغ، يطارد الذبابة بحنق – بلا وعي- من مكان إلى آخر، يرتطم بالجدار، يسقط، تؤسره الخيبة، يمتطي خطوات الخذلان؛ لقضاء ما تبقى من ليله، يذرع المكان كالمتسول، يقتفي هزائمه المتلاحقة، يجفّف عرق جبينه، يستوي على سريره، ينظر إلى السقف ثانية، يرصف أشلاءه التي بعثرها الطنين، يبتسم، يدسّ رأسه تحت الغطاء، يبدو أنّه تذكر شيئاً ما، وقبل أن يتسلّق ضوء الصباح أفق فجر جديد، يستيقظ الجندي على صوت صافرة النهوض لقيامة جديدة، فتح عينيه ببطء شديد، مسّ عينيه شبح العريف، فانطفأت أحلامه، كانت حفنة من رماد خلّفها عند وسادته:
– لا أدري لماذا يتكرر موتنا؟ ولماذا يهدم الذباب أحلامنا البائسة؟
– أ ما زلت تحلم، أيّها الدب الكسول؟
– وكيف تعيش أيّها الأبله؟ وأردف بنبرة حزن:
– لم يبقَ لنا سوى الأحلام.
– وبِمَ تحلم؟
– أيّ شيء، المهم أنّي أحلم، سأقصّ لك حلم الليلة الفائتة بعد أن نعود إلى القاعة، كان حلماً جميلاً.
في ساحة العرض انتظم الجنود في صفوف متوازية، العيون شاخصة، يلدغها الصوت الآتي من بعيد:
– استعد، استرح، استعد.
الصمت ينزلق على كتف المكان، البنادق انتصبت بموازاة الأرجل المتصلّبة، الذبابة الماردة تعود، تتسلّق أنف الجندي، يتمازج القلق مع ارتعاشة كتفيه، يحرك أنفه، يمطّ شفتيه، لم تغادر مكانها، يحولق بصوت خفيض. قال الجندي المحاذي له هامساً:
– ما بك؟
– ذبابة لعينة فوق أنفي.
– هشّها.
– كيف؟
– هكذا… مطّ شفتيه للأمام، ونفخ في الهواء.
حاول أن يداري حيرته، يتلبّس المشهد باحتراف، يطلق عدة زفرات، لحظة ويشنق ارتباكه بلذة:
– لأول مرة أحسّ بلذة الانتصار.
– اصمت ، ثمة من ينظر إلينا.
يمضغ بعض الوقت بلامبالاة، يرتقي حاجز الحضور الموحش، يغرق في لحظة تجلي، يتراءى له جداول متبرّجة بأزهار ملوّنة، تطلق أحلامه عند حافة امرأة تنثرعطرها فوق جدائلها المسفوحة فوق عشب أخضر، لم يرَ مثلها من قبل، تعصر روحه بفيض فتنتها، رتّب زهوه، تسلّل ما وراء صحوه، تقرعه رغبة العناق ولثم ثغرها، وقبل أن يقتحم ظلال الأشجار الوارفة، اقتحمه طنين تلك الذبابة اللعينة لتحطّ مرة أخرى فوق أنفه الغارق بعطر أوهامه، وما كان منه إلّا أن يصفقها بكلتا يديه تاركاً سلاحه يقعقع، يستثير السمع وسط ذهول الجميع، لا يدري- هذه المرة – كيف يداري ارتباكه؟ خرج وسط الساحة، يلج فجوة إهماله، مغتصباً رعشة خوف سرت في كيانه:
– مالذي فعلته، أيّها الأحمق. قال الضابط.
– لا شيء، سيدي، أردت إبعاد الذبابة.
– وكيف يتسنّى لك مواجهة العدو، وأنت لا تحتمل موقفاً كهذا؟
– سيدي، أستطيع مواجهة كتيبة من الأعداء ولكن…
– ولكن ماذا؟
وبعد لحظات قصيرة كان الجندي يتمرغ في الوحل، الضابط مبتهج وسط صمت الجميع، يطلق أوامره بالتحرك إلى الأمام. واصل الجنود المسير نحو التلال المحيطة بالمكان، بينما الضابط راح يراقب سير المعركة عن بعد.
– ما الذي ستفعله، أيّها الدب الكسول؟ قال الجندي ضاحكاً.
ارتسمت على شفتيه ابتسامه خفيفة:
– سأحتسي المزيد من الأحلام، وأطارد الذباب في كلّ مكان.
دوي الانفجارات يتسوّرالمكان، يلفحه أزيز الرصاص وسط موجة ذهول، لم يتوقع أحد أن العدو بهذا القرب، احتمى الجميع بالانبطاح، وبعد دقيقة تدفّق القصف بشكل كثيف، حتى لفّ المدى دخان وصراخ يخمش القلوب رهبة ورعباً. وما إن انجلى غبار القصف واطبق الصمت على المكان، كان الجندي المتمرغ بالوحل يشخب بدمه، يصافح دمعه لوعة، تطوّقه نظراته الحالمة، يختنق بعبرة، يشهق صاحبه ملء روحه:
– لاتمُت، أيّها…
– قلها ياصاحبي …..
يميد به الشوق، يعانقه، يعاتبه، تحشرج صوته حزناً:
– لا تمت أيها الدب الكسول، احكِ لي حلم الليلة الفائتة، من سيقصّ لي الأحلام بعدك؟
– لا تخش شيئاً، هاأنذا أسلمك أحلامي.
وقبل أن ينطفئ ضوء القاعة كانت أسراب من الذباب تلعق دمه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى