قصة

هلوسة.

ليلى عبدالواحد المرّاني

أشباحٌ تطاردني، تحالفت مع سياطٍ من زخّات المطر، تُلهب ظهري، ووجه جواد مهشّماً، وجمله مبعثرةً، هي الأخرى تلاحقني، توصلني إلى الجحيم، وبيتنا هو أيضاً تآمر ضدّي، أين هو؟ المسافة إليه تزداد اتّساعاً وكأنني أركض في اتجاهٍ معاكس.
” جواد، هذا الولد المشاكس أمانةً بين يديك”، قالت أمّي وهي تضع شيئاً في جيبه. نظراتي الفزعة لم تحنّن قلبها، هرولت مسرعة، ونظرة تحذيرٍ وزّعتها بيني وبين جواد، دون أن تنظر نحوي، تساقطت كلماتها سكاكيناً تنحرني، ” كُن عاقلاً، جواد لا يعرف الرحمة.” أحسستُ بمؤامرةٍ ما تحوكها أمي مع جواد، إذ ما كادت تختفي، حتى هوت يدٌ قويّة على كتفي، اقتادتني بهدوء خلف الأسوار العالية. هو إذن الجلاّد الذي أوكلته أمي أن يضعني خلف القضبان. عيناه صغيرتان، مدوّرتان، في إحداهما حولٌ مخيف، وشعرّ منكوش متّسخ، كأن الماء والمشط على خصامٍ معه منذ شهور، معقوفٌ أنفه وطويل ينتهي بتجويفين محفورين، كمنقار صقر.
رجفةٌ هزّت جسدي الصغير، وأنا أسير تحت ذراعه، حملاً بائساً يساق إلى الذبح، هكذا شعرت، فتجمّد الدم في عروقي.
يردِّد كلماتٍ لا أفهمها، ” أمك أوصتني بك، فاحذر، لن تستطيع الهرب ثانيةً، ما دام عمّك جواد يحرس الباب.” وسبق لي أن هربت مرّتين، باكياً، مرتعباً من تلاميذ كبار يسخرون من نحولي واعوجاج ساقيّ.
هل هذا الرجل عمّي حقّاً؟ ولماذا، إن كان عمّي لماذا لا يساعده والدي المقتدر؟ سقطت عيني على بنطاله الفضفاض، يكاد يسقط من جسمه البالغ النحول، يلملمه بحزامٍ عريض. كتمت ضحكةً كادت تفرّ من فمي، لستَ عمّي أيها الأحول، أنت الجلّاد الذي وضعتني أمي تحت رحمته. كتمت صوتي وأنفاسي خوفاً، ومن يومها كرهتُ الأسوار العالية، وكرهت كلّ جلّاد، وكرهت أمي التي تآمرت معه.
جواد، موحة، فرحان.. أصواتٌ تداخلت ببعضها، تهدرُ، وتلعن، وشابٌّ نحيف رسم الهلع على وجهه شحوباً شمعيّاً، فغدى مسخاً ضئيلا يحاكي وجوه الموتى، يقسم بأغلظ الأيمان أنّ الرجل ألقى بنفسه أمام فرامل سيّارته، منتحراً يبدو. عيونٌ غاضبة تمزِّق ملابسه الأنيقة، وشعره الطويل، يرتجف ويلتصق بسيّارته محتمياً، متحاشياً النظر إلى الجسم الممدود، غارقاً بدمه.
أحسستُ شيئاً بارداً يسقط على أنفي، على يدي ورأسي. غيومٌ مكفهّرةٌ، تفجّر غضبها سيولاً، شاركت مهرجان الحزن. سحبت امرأةٌ بدينة ابنها من يده، ” هيّا بِنَا، المطر يشتدّ.” تفرّق بضعةٌ آخرون، ودسستُ جسمي الصغير بين المتفرّجين.
” جاري فرحان يكثرُ من زياراته لنا، أصبحت أضيق ذرعاً به وبتلميحاته كلّما خطفت موحة من أمامه. وموحة جميلة، كفلقة قمر، شعرها شلّال عنبر، مجدولٌ بضفيرةٍ طويلة، تعزفُ لحناً على نهاية ظهرهاإن مشت، وفرحان يتساءل، غامزاً بعينه، من أين جاءت موحة ببياضٍ يشرق في وجهها، فيضيء؟ إلى رأسي يصعد الدم حارّاً ، متفجّراً. لم أفعل أو أقل شيئاً، ابتلعتُ غضبي حتى أصبح أفاعٍ سامّة تلتفّ حول عنقه، وتخنقه. وموحة بنت عمّي، أعلم أن أباها أرغمها أن تتزوّجني حين أحسّ ميلها نحو فرحان. أنا ابن عمّها، وفرحان رجلٌ غريب، جارنا وأخٌ لنا، ولكنّه لم يعد كذلك. نظراتهِ الجائعة ينهش بها جسد موحة، يجرّدها من ملابسها. سأطرده غداً، موحة تتضايق منك، سأقول له، لكنّ موحة تكثرُ من الذهاب والمجيء حين تراه. سأترك الدار إلى مكانٍ بعيد لن يصله فرحان. نهرب من عينيه اللتين تبحثان دوماً عن شيءٍ خلف ملابسها.”
” يا أمي، بدأتُ أخاف جواداً هذا، لا أفهم ماذا يقول، يتحدّث مع نفسه كثيراً، يبكي أحياناً، ينظر نحوي وكأنه ينتظر منّي شيئاً أقول. ماذا أقول يا أمي وأنا لا أفهمه.”
صفيرٌ حادّ متواصل، ينزل رجالٌ من سيارةٍ بيضاء، مسرعين، يشقّون طريقهم بين زحام المتفرّجين، لوحٌ خشبيّ، يشبه قاعدة السرير القديم الذي أهملناه على السطح في دارنا، ونحيبُ شابّ مرتجف يشيّعه. رأيت وجهه، يا إلهي، إنه جواد.. جواد، وأطلقتُ صرخة رعب. ” هل تعرفه؟ ” صكّ سمعي صوتٌ غليظ، عقد الخوف لساني، وانطلقت ساقيّ بسرعةٍ جنونيّة، سقط شيءٌ من يدي، حقيبة كتبي، وزخّات المطر تلاحقني، ترهقني، يصاحبها صوت جواد ضاحكاً، ساخراً،” أين تهرب مني أيّها الشيطان الصغير؟ ”
اعتدت رؤيته، وثرثرته، فرحتُ وأنا أرى نظرة رضاً على وجه أمي، أنتظمت بالدوام، حينها أحببتُ جلّادي الذي ازداد نحولاً، واتّساعاً زاد بنطاله،” موحة هربت مع فرحان جاري، وأخي. ” ينظر نحوي بعينين دموعاً تنهمر، فيزداد حولاً، وأزداد خوفاً. ” جئنا من الجنوب إلى بغداد، بعت البقرة وكوخي الصغير، موحة أرادت ذلك، ولأجلها أصوغ عيناي قلادةً لها.” ضحكتُ في سرّي!
” رافقنا فرحان، في معمل زيوتٍ اشتغل هو، وأنا حارسٌ في مدرسة، وموحة نفسٌ دافيءٌ تستنشقه أنفاسي، وهبتني ابنيَ محمد، وفرحان يقول، كم أنت محظوظٌ بهما، أيها الأحول، طيران جميلان، وأنت..” ويبصق باحتقار. ” موحة لم تكن تمشي على الأرضِ بأقدام، بأجنحةٍ شفّافةٍ تطير، أحاول اللحاق بها، فلا أستطيع، ومن القفص طارت مع فرحان ..”
لم أعِ ما يقول، مع نفسي تساءلت، ولماذا يحبسها في قفص؟ من حقّها أن تطير .
كثيرٌ من كلماته تضيع وسط شهقاته وضجيج الشارع والباعة المتجوّلين، ” البنت تبكي، تريد ثديَ أمها، ماذا أفعل، وهؤلاء الكلاب الصغار أتعبوني.” سمعته وأصدقائي ونحن نسير خلفه. ضحكنا بعبث، أحدنا هتف منتصراً،” جنّ جواد، يتحدّث مع نفسه أصبح. “‘ وأمي بحزنٍ قالت، ” إنكم ملاعين صغار، اتركوا الرجل، تكفيه همومه. ”
صوت سيارة الإسعاف، وزخّات المطر أخذت تطاردني بضراوة. سقطت، تلطّخت ملابسي بالوحل، دماً قانياً نزف أنفي، ارتميت بحضن أمي باكياً، اختلطت دموعي بنزف دمي.. جواد مات يا أمي ..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى