من أحاديث الهوى والشباب. في ديوان الشعر العربي أ. حيدر حيدر
مما لاشكّ فيه أنّ ديوان الشعر العربي، حفل كثيراً بأحاديث الهوى والعشق،
وقصص الحبّ التي نقرأها في هذا الديوان، مفعمة بالجوى والألم والصدّ والهجران والغدر والوفاء والبذل والتضحية والصدق والنقاء،فمنذ العصر الجاهلي تطالعنا قصة (عنترة العبسي وعبلة)،
وإذا ما انتقلنا من العصور الأدبيّة القديمة إلى العصر الحديث لوجدنا معلقات نظمت، ونثر مضمونها ،يعبّر عن قصص الحبّ التي أرقت شعراء كثيرين،فهذا
الشاعر( مفتي فتح الله )من بيروت ومن العصر الحديث.. يروي قصة حبّه من قصيدة طويلة بلغت ثمانين بيتاً،يبدأها بالقسم بمفاتن المحبوبة،وحسن طلعتها،
وإشراقة مبسمها:
أَقسَمتُ بِالسّحرِ بَينَ الكحلِ وَالوَسنِ == وَالصّارِمِ المنتضي مِن طَرفِهِ الوَسِنِ
وَالبدر مُزدَهِياً في شَرقِ جَبهَتِهِ == وَالشّمس طالِعَة في وَجهِهِ الحَسَنِ
وَالدُّرِّ مِن ثَغرِهِ الدُّرِّيّ مُبتَسِما == وَلَيسَ يحصَرُ بِالتّثمينِ في ثَمَنِ
ثمّ يصف أنّ هذا الحبّ قد تملكه،وركب المخاطر في سبيله،وسلب عقله،
وأصبح شاحباً هزيلاً،وألبسه الحبّ ثوب السقم والمرض،حتى غدا يكلّم
يكلّم نفسه،ويبوح بحبّه سرّاً وعلانية، ولايستطيع إخفاء مشاعره،لأنّ تباريح الهوى البادية عليه،تفضحه:
هَويتهُ وَفُؤادي بِالهَوى وَلِهٌ == وَقَد رَماني هَواهُ في يَدِ المِحَنِ
وَسَلَّ عَقلي وَلُبّي في مَحَبّتِهِ == وَأَوجَبَ البُغضَ بَينَ الجفنِ وَالوَسنِ
وَعَذَّبَ القَلبَ إِبعاداً بِلا سَبَبٍ == وَقَد كَسا الجسمَ ثَوبَ السّقمِ وَالحَزَنِ
فَصِرتُ في يَومِ غَيمٍ كَالخيالِ بَدا == لَولا خِطابي مَنْ خاطبتُ لَم يَرني
وَهِمتُ فيهِ خَليعَ العَقلِ عادِمه == أُبدي الصّبابَةَ في سِرٍّ وَفي عَلَنِ
لا أَكتُمُ العشقَ كَيفَ العِشق أَكتُمُهُ == وَبي شُهودُ الهَوى وَالعِشق تَفضَحُني
وهذا الشاعر(عبدالله فريج من مصر)له ديوان(أريج الأزهار في محاسن الأشعار)
له معلقة بلغت(102)بيتاً يفوح أريج أبياتها بعطر الحبّ الصادق الذي رضعه
منذ أن كان طفلاً صغيراً ،وهو ما ميّزه عن عقلاء زمانه:
لَقَد جِئتُ الهَوى طِفلاً رَضيعاً = فَفيهِ فِقتُ عَن أهل الكَمالِ
ثمّ يصف لنا الشاعر وفاءه وإخلاصه لهذا الحبّ الذي يسكره بلا كؤوس راح:
وَفيُّ العَهدِ ذو وُدٍّ فَمن ذا == لَهُ في حُبِّهِ فَضلٌ كَما لي
ألا من لي بِهِ من بَعدِ هَجرٍ == أراه بِالوَفا يَوماً نَوى لي
بِروحي من أرى مَوتي لَدَيهِ == إذا أبدى لَدى هَجرٍ مَلالي
وَيُسكِرُني بِلا صَهباءِ خَمرٍ == إذا من ثَغرِهِ كَأساً ملا لي
ثم يصف لنا ،وبأسلوب نظمي، تشبه قوافي أبياته العتابا والمواويل الشعبيّة كما لاحظنا، يصف بشفافية وصفاء جمال من يهواها:
رِضاب الثغر من ريمٍ يُنادي == أَلا تَبَّت يَدا بِنتُ الدَوالي
فَمن لي من مَراشِفِه بَريقٍ == سِواهُ لا أرى يَوماً دَوالي
غَزالٌ إن نَرُم مِنهُ سَلافاً == عَلَينا دارَ يَسعى بِالرِضابِ
وهو على غير عادة العاشقين الذين يحاولون إظهار حبّهم وهيامهم إذا ماكواهم غدر الحبيب،وأصابهم الحبّ بالسقام،نراه هنا يتخفى عن أعين الناس محولاً إيصال رسالة وصال وتعطف إلى من يحبّ ،وهو غير واثق من وفائه:
أَيا من قَد غَدا صَدّي وَهَجري == لَدَيهِ في الهَوى وَالعِشقِ حالي
خَفيتُ عَن العُيونِ لِفَرط سَقمٍ == أَلا رِفقاً بإسقامي وحالي
أقولُ لَهُ وَقد ذُبتُ اِشتِياقاً == أَلا يا مَن إلَيهِ القَلبُ صابِ
إِلامَ ذا الصدود وَذا التَجَنّي == لَقَد جَرَّعَتني كاساتُ صابِ
وكغيره من المحبين الذين يكون للعذال والواشين دور في تفريقهم عن بعضهم البعض نراه يقول:
لَحاني عاذلي فيكُم لحاني == وَمني طالَما لِلدَمعِ أجرى
وَقد جاهَدتُ حُبّاً في هَواكُم == فَهَل تَقضون لي في الحُبِّ أجرا
أخو ظَبيٍ هَواهُ قَد تَوَلّى == بِدَولَتِه عَلى قَلبي فَسادا
فَماذا يَفعَلن الواشي إذا ما == غَدا ما بَينَنا يَرمي فَسادا
ثمّ يتمنى لو أنّ هذا الحبيب النائي المجافي لو يعود إليه يوماً:
مَليحٌ إن يَزرني ذاتَ يَومٍ == فَلا عَجبٌ إذا صادَفتُ قَدرا
لَعمري لَيلَةٌ بِالوَصلِ مِنهُ == تحطُّ إلى لَيالي القَدرِ قَدرا
أِقولُ وَقد نَأى عَنّي حَبيبٌ == لِذِكراهُ أَلا يا نَفسُ عودي
فَاِنَّ حَديثُهُ وَاللَهِ أشهى == لِسَمع الصَبِّ من شادٍ وَعودِ
ثم نراه يردّ على من يراه قد بالغ في حبّه لحبيب لايستحق هذا الوفاء،لأنه قابله بالجفاء والنكران والخذلان:
خَليلَيَّ اِعذرا مِني فُؤاداً == أجاب الحبَّ إذ يَوماً دَعاهُ
مَعنّى قَطُّ لا يَسلو غَراماً == فَمن لَومٍ وَمن عَذلٍ دعاهُ
يَقولُ وَقد تَلَظّى الخَدَّ مِنهُ == أَلا تَصبو لِذا الوَردِ النَصيبي
فَقُلتُ لَهُ نِعم أصبو وَلكِن == فَهَل لي فيهِ يَوماً من نَصيبِ
ثم يمضي الشاعر في هذا الحديث من الصبابة،وعتاب من يحبّ،ويطالبه بالوفاء والإخلاص له،وكعادة العشاق المخلصين الذي يزهقون أرواحهم من أجل وفي سبيل من يحبون ويصدقون في حبّهم له،نرى شاعرنا يقول،وبعد أن أضناه حديث العتاب،وشكوى اللوعة من فراق وغدر من يحبّ ويرد
وأخيراً فإنّ شاعرنا المتيم الولهان،يواسي نفسه،ويجد مبرراً لاستمراره في حبّه وتعليلا نفسياً يريحه في مواصلة السير في مسالك الحبّ الصعبة،حتى ولو أدى ذلك إلى تجرع كأس المنون، أو ملاقاة الموت الزؤام في سبيله،فلا يهمّ لأنه وبرأيه أنّ الميت في سبيل الحبّ شهيد وأيّ شهيد:يقول:
إذا حكم الغَرامُ قَضى بِمَوتٍ == اِلَيهِ فَاِخضَعي نَفسي وَديني
فَمن قَد ماتَ في حُبٍّ شَهيداً == سَعيداً كانَ في دُنيا وَدينِ
وهل بعد هذا من يجد لي تفسيراً في قاموس العشق والهوى؟؟لمثل هذه التضحية والوفاء عند المحبين