كان ينبغي لجسدي أن يكون طهوراً وأنا أستعد لملاقاته بأنفاس لاهثة.. لا أعرف، انما أخذتني الرعدة لمّا أُنبئت باللقاء وبقيت مشغول الخاطر مستعيناً بذاكرة مريضة تتوخّى وقوع (الرؤيا) .
قبيل لحظات الغياب، رأيت نفسي وسط بركة من دمي، كان الدم لا يزال يفور ممتزجاً بالروح الخليعة والرائحة تصّاعد منه لتداعب أنفي بنكهة الصدأ.. مرّت لحظات زارني بعدها أحدهم مبتسماً ودسّ في يدي وريقة خضراء كُتب عليها:
( يسمح لصاحبها بالمرور )
فُتح لي باب كبير لم يُصنع من شيء مجرّد هلام متكتل شديد اللمعان تنحاز ذرّاته الى اليمين والى اليسار، وكأن الباب كلّه غير مستقر في مكانه أو يدور في ضعف الحيّز الذي يشغله، بان رواق دائري هلامي أيضاً بدا أنه ينزلق الى أسفل بشدة، لكن حينما وطأت قدماي الهلام أدركت الاّ صحّة لذلك وأنّه يتجه باستقامة خفيّة لا تنكشف الاّ مع كل خطوة الى أمام .
قبل أن أدخل وجلاً سمعت صوتاً ينادي :
– تقدّم ، لاتخف
اكتشفت أني أسير على شيء أشبه بدخان السيكارأو سحابة بيضاء تحملني رغـم ثقلــــي الى حيث الدهشة.. إدهاش!.. مخلوقات مجنحة تمر بي، تخترقني، يصيبني منها عطر أثير.. أدعية.. تراتيل.. أصوات شجيّة تناجي ربّها بلهفة.. منقاد الى العمق بنشوى لذيذة والضوء يزداد سطوعه كلما مضيت قدما.. قرأت آيات من الذكر واستدرجتني القراءة لتلمّس أوّل خيوط ذاكرتي الواهنة.. بدأت أتذكر أشياء كثيرة خلّفتها ورائي يلفّها الضياع بفقدي، أشياء لا قِبَلَ لي على تركها لولا أن حدث ما حدث ..
وما الذي حدث بالتحديد ؟ ..
كلّ هذا السحر، كلّ هذا الهيام والخوض في اللمعان، كلّ هذا الأسر الجميل…
يا إلهي..
ما الذي يجعلني أتصرّف هكذا ؟ ..
طفل مع لعبة جديدة، لكنه لا يملّها ابدا.. منتشٍ بجدّتها..
أضحك في سرّي طويلاً.. يعتريني الشعور بالبهجة وتصطاف نفسي في شتائها الغائب منبهرة بما هو دون حادثـــة اللقاء نفسها.. ربما أنا بليد، مشوش الفكر، إنما لست مدّعياً ولا طوباوياً ولا مخاتلاً فيما أصبو إليه.. أنا بحق أحب ذلك الشيخ، أذوب في عاطفتي تجاهه وأنبري أجهش ببكاء مرّ لا يستنزف مشاعري.
ـــــــــــــــــــــ
[هذه روحي عليلة في أتون المعرفة، هدّها طول السفر، تركتني ثملاً، أخذت تجري وراءك، ببهـــــاء، بانبهـــــار، بنهايات صبرها، بانكشاف سرّها، إنها تتلوّى، تتمزّق، تتهافت على لحظة تجمعها بك، لستُ أفديك بها وكفى، سأمزجها بعشقك المتفجّر شذى لتعود أصلب عودا .. ومرّة ثانية، تتمزّق على لحظة أخرى.]ـــــــــــــــــــــ
الضوء يزداد بهاء.. يسطع بشدّة.. الخطوات المحفوفة بآمال مولعة بغاياتها تجعل لحظاتي لا تستوعب ذلك الفرح الغامر، فتضيع في اللازمن.. أسير الى سعادتي والزمن ورائي يتحنّط على خشبة زيفه.. ذرّات الضوء أخذت تشتعل باقترابي.. أخذت تمطرني بشظايا متوهّجة تخترقني بسرعة.. لم أعد أرى الأشياء بدقة.
ـــــــــــــــــــــ
… أخيراً تجسّد الضوء شبحَ إنسان يلتفع بوهج أبيض، إنما أي شيء جعلني أعتقد أنه يبتسم.. لا أفهم .. كيف أصنع ؟
ضآلتي أمام عظمته.
ـــــــــــــــــــــ
ارتجاف ..
فــرح ..
بكــاء ..
ـــــــــــــــــــــ
– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………!.
انطفأت الذاكرة.. غابت الأشياء.. علت روحي بسؤدد مجدها.. خلّدتها تلك الدموع المحتفية، والمنظر يتّسع.. يتّسع للحظات أخرى منتحرة في اللازمن.
جسدي يهتزّ فوق أكف مضمخة بالدماء، علت الأصوات الداعية لإنقاذي:
– احملوا هذا المسكين.
ركضوا بي.. اشتدّ اهتزاز جسدي فوق رؤوسهم، والدم يقطر منّي ممتزجاً ببقايا دموع.