أعيش وحيدا بكل ما للكلمة من معنى يخدش حياء الإنسانية ويرجمها بنكوصه القذر .. تخاطب روحي التاريخ وشموسا أشرقت في سماوات فتية، محطم أنا دون أن أجد مبررا واحدا – واحدا على الاقل – لاستمرار التناقض بين ما هو حقيقي النشوء صادم للعقول، وما هو هلامي النشأة مترفّع عن حقيقة كونه غير حقيقي يسكر النفوس يزكمها بزفيره ..
عمليات نفخ متواصلة ..
ما المشكلة ؟
فصام، استمتاع بتعذيب النفس، عته، اي شيء آخر .. ؟
-(( اصمتي أيتها الأسئلة . ارفعي فستانك أعلى ركبتيك .
لا حياء . لا حياء .
زمن مغرورق في لحظ صمتي .
لا حياء . لا حياء .
أسف مكبل بلحن إنشادي بلا طرب .
لا حياء . لا حياء .
ارحلي خلف مشاهير الردود .
اتصلي بهم .
اركضي . اركضي .
رغم انفي تصلين . تتعبين . تلهثين .
رغم انفي تجدين نفسك بمستوى القلق .
رغم انفي ترسمين مسارات الألم .
رغم انفي . رغم انفي .
لا حياء . لا حياء ! ))
مدينتان متجاورتان يتوزع لهاثي بينهما .. لهاث مختنق في جو الغرفة التي أعيش فيها .. لهاث مشمئز منسحق تحت وطأة إطارات السيارات، أسواق الفواكه والخضر .. لا يمكن أن أميز ملامحهما بسهولة، حياتان اثنتان غير متشابهتين، لهما صورتان حيّتان محفورتان في مخي، لا تميزهما رؤية واضحة بل مجرد ومضات ضوء أبيض يتسلط على أحدهما فأكتشف حينها أنني منغمس في أجواء تلك المدينة ( الحياة) .. انتقال سحري خلال زمن مضمحل .. هه ..
ما الذي سأقوله لكم بعد هذا اللغط ؟
هراء، إنما أنا مجبر على الكلام، لا أراني سوى إمّعة تقول الترهات، أجوس في رتابتي منذ سنين .. صدقوني لست مجنونا بل مكرها على إخباركــم بكـل
شيء ..
ما كنت أراه وأصبحت لا أراه ..
ما أراه الآن ولا زلت أراه ..
ما رأيته ولم ترونه أنتم..
أووووووووف!
تعسا لي من هذا الكلام، لكن لابأس ..استمعوا لي :
مشاهدة رقم ( ١ )
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مدينة الانزياح .. محرقة الأفكار .. منطلق البشر نحو الله في محاولة لعقد الصلح معه ! .. بماذا ؟؟؟؟ …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنا مأمور في هذه المدينة أن اسلّم رأسي خالية تماما من العاهات .. رأس حليق لا تميزه خلا جمجمة فارغـــة حتـى من المخ .. لقد أخبرت سلفــا بكافة
التغييرات.
مخ جديد .. ذكاء اصطناعي مبرمج .. سرعة بلغت ( ….) ميكاهيرتز .. ذاكرة اسطورية لا تنسى الألم ..
موافق .. غير موافق .. غير مهم ..
ذكاء حاذق وموجه ..
قلت : كيف سأعيش بهذا الرأس الأقرع ؟
بسيطة !…
ستجد أناسا كثيرين يشبهونك ، عش كما يعيشون، تكلّم فقط كلاما طازجا، إياك المساس بالماضي؛ ستُلقى في مزبلة المفكرين ..
( كازانوفا ينبغي أن يكون كاذبا كي تستمر الرحلة ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هيام مستمر يطيح بي هنا وهناك .. أرتعش بقوة من ذلك الصخب ..
مطلوب كذا وكذا .. طلبات .. تزعجني تلك الطلبات المفخخة .. العصر عصر ذهبي لا علاقة له بالشيطان ..
( الغواية ليست من عمل الشياطين ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمجمتي ثقيلة، أحملها على جثة خربة، أطوف بها على مستنقعات المدينة باحثا عن وجه الرب، أجده في عيون الصغار نافرا في عيون الكبار غاضبا، مترفعا حتى في وجهات نظره .. ينتظر .. فقط ينتظر ..
( هي لحظة واحدة غير حاضرة في غياهب تكهناتي ، قادمة بكل تأكيد ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمر بي الوجوه كل يوم ملتفعة بإرهاصاتها معجونة بماء الجِدّة فاغرة أفواهها .. تمور بها لحظات محترقة .. التي أعرفها والتي لا أعرفها، بدا الاّ بد من مجاراتها ..
( تحت طائلة مخ مبرمج العمل مع المسوخ ممكن .. خيال وهامش بشري ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نادى عليّ أحدهم .. ناداني اثنان .. أصبحوا أربعة .. عشرة .. مائة .. ألف .. مليون ……….
_ (( هلمّ يا أبله )) .
أخذت أجري .. أخذوا يجرون ورائي تمتد قبضاتهم نحوي .. أركض خارج أسوار المدينة .. تجاه العدم .. هربت من زنزانة وجودي إلى حرية اللاكينونة ، حيث تخرس الأصوات .. ثمة فقط همس مشوب بالرعب .
مشاهدة رقم ( ٢)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
باب غرفتي يفعل الكثير! .. انسلاخ جديد في كل مرّة .. ثوب التصنّع على جسد الحقيقة ، بعدها جسد مزيّف يتبرقع بثوب الحقيقة، على أية حال يجب إخباركم عن التفاصيل الجغرافية للمدينة الأخرى :
الموقع : الطابق العلوي من المنزل .
المساحة : ٥×٥ مترا مربعا .
الطقس : جو خانق في كل الأحوال.
المحتويات : سرير نوم، مكتبة تغطي الجدران جلّها مؤلفات تأريخية، خزانة ملابس صغيرة، الأرض غير مفروشة خلا قطعة سجاد صغيرة مدوّرة .
فنتازيا أسستها لنفسي على أرض الواقع .. يوم دخلتها للمرة الأولى أخذني سحرها ورونقها البهي، كانت إضاءتها رائعة، أشعة الشمس الداخلة من النافذة تبدو وكأنها منعكسة عن مرآة عملاقة، لا أعرف لماذا أعتقد دائما أن سقراط كان يحمل تلك المرآة ويرمقني عبر الأشعة المنعكسة بنظرة بلهاء لذا أشرع بإسدال الستائر فور انزعاجي .. لم أكن أريد أن يرقبني أحد ولا حتى العظماء .. أعترف إنني لا أملك شعوراً حقيقياً تجاه ما يحدث في مدينتي، إسهاب في جميع مجريات الأمور، هياج يصحبه الماضي معه إلى دوامة داخل العقل فأتفرّس فيما يحدث ولا أجد سوى نفسي محمّلة بالقلق .. أيّ جنون ؟!.
أجلس على السجادة بين يديّ سفر، أقرأ بنهم، أركّز آتي على الصفحات واحدة تلو الأخرى .. الكتاب .. المكتبة برمّتها .. عود الى بدء .. أركّز .. أحفظ عن ظهر قلب، أعيد بناء سدّ مأرب، أجمع أموال قارون من جديد، أهزم الفرس والرومان، أكتشف الذهب والألومنيوم، ألعب الأدوار الخطيرة، أترنّح على حبل المغامرات السحيقة، أشتعل بنيران أمجاد غيري وأتقمّص الشخوص بدقّة .. ثمّة بحث .. ثمّة تمحيص مكرر .. ثمّة مكر والتفاف حول الحقائق .. التأريخ كلّه مر .. الحقائق ليست بحقائق ..
( لا حقيقة تأريخية تذكر سوى مكتبتي والسجادة الحمـــــــــراء المدوّرة ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نــهايـــــــة الأرشـــــــــفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشاهدة رقم ( ٣ )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنا عائد هذا اليوم من عملي صُفق باب السور ورائي بقوّة، صمتت الأصوات التي كنت أستمع إليها في السابق ، فقط صوت من نوع آخر أشبه بانفلاق شجرة عملاقة .. الزيغ .. لستُ متيقناً مما أرى، الجدران تتمزّق متناغمة مع لحظـة تحوّل رهيبة أمرّ بها يختلط فيها الهمس مع الوساوس .. استفاقــة زمنيــة طائشة .. طَلْق في الجدران ينثُّ على وجهي قشرتها الخارجية .. تتعــرّى من غشائها، والطابوق يهتزُّ في مواضعه يتخلّى عن بعضه البعض ويكاد يهبّ إلى السقف بنزق المتمرد .. القِطَعُ تهتزّ .. تتمرّد .. تتقافز واحدة تلو الأخرى تجاه قطب واحد .. جمجمتي المسكينة .. تمرّ الواحدة منها أمام عيني أقرأ عليهــا كلمات .. الزيغ .. بالكاد أقرأ ..
ق … ل … ق
……………..
……………..
……………..
……………..
……………..
بعدها تتحطم على رأسي تتناثر على رأسي تراباً، الجوّ خانق، لا متنفس .. استنشق التراب بكلماته الصارخة، يدخل رئتي يختلط بدمي، يسري في عروقي .. يتصلّب في جسدي قطعة كاملة .. قدماي تتصلّبان ، بطني ، صدري ، اليدان، تترتب الكلمات لوحةً شعرية تصدح بها أصوات شجيّة لكنها تلح علّي بلحنها ذي النسق الواحد،
ويتطرّف العالم يسخر منّي حيث لا جدران تقيني .. عالمي بات مشاعاً وأنا كلوح إسمنتي، ركيزة حمقاء .. الزيغ .. الهواء ينفذ .. الجدران تنفذ .. الأتربـــة تتصلّب .. تتصلّب ……..
* * * * * * *
جسدي خشبة يابسة .. دمي ملوّث .. لا مناص من رشقه على رؤوس المنادين .. أرش دمي على الرؤوس بينما أتقهقر متصلباً .. دائماً إلى الوراء، وفي لحظة سقوطي الأخير في هوّة السرير؛ كانوا قد وصلوا وابتدأ التشريح .