قصة

مزاد.

ليلى عبدالواحد المرّاني

يلقي نظرةً أخيرة ملؤها ألمٌ، يضجّ سخريةً، على شهادته الجامعية المعلّقة على جدارٍ ينضح رطوبةً وعفن، في جحر يسكنان فيه لا يسعُ ثالثاً، وإلى جوارها شهادةٌ جامعية أخرى لزوجته، ينتزعهما بحقدٍ ويلقيهما أرضاً، باصقاً يسحقهما بحذائه المهتريء، يتناول الكيس الذي يضمّ ثمن كليته التي باعها، وكلية زوجته.. تنظر إليه بصمت ورجاء، تضغط على جرحها الذي لم يندمل بعد، يتخاذل تحت عمق نظراتها المستعطفة، ودموعها بصمت تغسل وجهها.. يمسحها بشفتيه المتيبّستين، يقبّل رأسها بإشفاق..
— ضع الكيس تحت قميصك..
صوتها متوسّلاً
— لماذا..؟
— أخاف أن يسقط من يدك، أو تنساه في الباص.. أو يختطفه أحدهم منك..
ملؤه ألماً تنزلق من فمه الكلمات ساخرةً: — نبيع قطعةً من كبدنا حينها …!
يستقطع دنانير قليلة تقيهما الجوع لأيام، يغادر مسرعاً كأنّ شياطيناً تطارده، أخيراً سيحصل على عمل بعد أن يدفع الثمن رشوةً للموظف الذي وعده، حارساً ليليّاً لإحدى الدوائر، تعصف برأسه زوبعةٌ من العواطف والذكريات، تسخر منه أربعة أعوامٍ في الجامعة، استعجلها كي يتخرّج ويشتغل بشهادته، حالماً بعشٍّ صغير يجمعه بحبيبته.. كانت تلك اللحظات حدّاً فاصلاً بين الحياة واللا حياة، بين الأمل واليأس حدّ التلاشي، حزن عميق تبرعم فيه أملٌ صغير أخذ يصقل روحه ويضيء، يتحسّس النقود، يضمّ الكيس إلى صدره، يحتضنه كما طفلٍ رضيع، يرسم ابتسامةً على وجهه، جاهداً حاول أن تبدو سعيدة، يطرق الباب، متعثّراً يدخل غرفة الموظّف، ناظراً إلى الكيس بإشفاق يضعه على المنضدة السوداء اللاّمعة،
— آسف أستاذ، المبلغ تنقصه بضعة دنانير، أعدك أن أسدّدها من أوّل راتب..
دون أن يرفع رأسه، يعدّل من وضع نظّارته الطبيّة على أنفه الكبير، باسترخاء ينفخ دخان سيجارته، يتقيّأ قيحاً يفحّ مع كلماتٍ قادمة من دهورٍ سحيقة:
— آسف، لقد تأخّرت..
ابتسامةٌ بلهاء تفترس وجهه، ملتاعة خرساء تنوح كلماته:
— كيف، لماذا..؟ موعدنا اليوم يا أستاذ..
— غيرك دفع أكثر، وحصل على الوظيفة…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى