أمام شجرة يوكالبتوس في غابة برلين كانت تنظر إليه في شغف ودلال …بدا عذبا..ألقا .. قامته الطويلة شبه السنديان ..، عيناه الشاخصتان إلى أفق بعيد ..قسمات بشرته الملتهبة بسمرة حيّة ٍ يمور فيها عبير خزف فخاريّ ..خصلات شعره المرتدة إلى الوراء في هيئة قوس قزح ،
: محمود .. قربك أشعر أني أحيا.. أشعرُ أن خبز أمي معي.. أن أحلامي التي سرقتها مدن الخوف تعود من جديد.. أشعر أن أغنياتي التي بعثرتها الريح تدخل لحظاتنا العذبة هذه .. هل أنا في رؤيا ..أم هنا في الأرض ..أوه ..جميل ما أنا فيه .. أهكذا تصدح خلجات قلبين في ظهيرة تموز …؟! ” ،
غمرته سحابة فرح طويل ٍ …راح يقلب أصابعه بين ضفائرها الأرجوانية ، رأى خصلة شاردة فوقها زنبقة من حرير، ضمها بين كفيه ، استل ّمنها حفنة مسك وأهداها إلى هديل حمامات في عش فاره ٍ بين تعاريج غصنين يلتفان حول جذع سنديانة تتكئ على عزفات الشمس …
: ليزا …كم أنت ألقة ومدهشة ..لكن بعد سنين يكون عودي قد بدأ في الانكفاء، وأما عودك يبقى في أوائل الصباح .. ألا تفكرين في هذا… ؟!
أرخت شالها الأبيض فوق كتفيه .. كان المساء يسحب أذياله من عربات الشمس المندحرة بين أقدام المغيب ..كانت النجوم تسكب بين زغردات الليل عناقيد زرقاء من خمرتها المعتقة في دنان الأثير ..
: لا… لـِمَ أفكر فيه …؟! أوَ ألسنا معا سعيدين..؟! هل في متاح المرء أن يلتقي دائما بمن يوقظ فيه الأخيلة الهائلة…؟! … ما نحن فيه أليس رهن يد الكون الخفية التي تجمع بين روحين في اللحظة المناسبة…؟! أيلوحُ هذا الجذب الهيولي كل يوم …؟! .. إن عناق قلبين طاقة علوية لا ترى التغييرات الحاصلة في الأجسام ، ترى تلك الشعلة الخالدة التي تحيل ما حولنا إلى جمال لا يشيخ.. وإذ يعبر أحدنا إلى ضفة الحياة الثانية يبقى شعاعها اللامتناهي يزجي الآخر في وادي المسرّات … ،
شدّ أصابعها بقوة فيض ينساب من بحيرة ضوء، أحسّت في خلجاتها عزفات عذبة تسري من ناي خبأ أوتاره بين الأعشاب المتناثرة هنا وهناك …..
: كيف أفكر في الذي تقول محبوبي .. ؟ ..أيسمح الوفاء بذلك..هذه الرابطة العلوية بيننا…؟ إني مدين لك بالكثير … قبل أنْ ألتقيك َ كنتُ غريبة عن هذا الكون ، وجعلتني أنتمي إليه ..كنت أهرب من بعضي ، وقدتني إلى كلــّي ..وحدك مـَنْ أنقذني ..مـَن ْصفــّـف خراب روحي بسنابل من حنين ٍ ..وحدك مـَنْ حين ألتقيه يغمرني رذاذ الأمنيات .. كنت رهينة الجلوس بين مخالب اليأس و جعلتني أصعد كل يوم إلى المرتفعات تاركة ورائي أنقاض حفري القميئة …في حضرة هذا الفيض كيف لي أن أبصر غير زهرات روحينا….!
مال إلى شفتيها ، كانت تغرفان من حفيف جدول عادت إليه مويجاته قبل قليل ، قبلها وقبلته كما لو كانا يدخلان صومعة محراب وراء جبل منفرد أمام قبة الأفلاك …
: كم يبهجني ما تقولين.. فتحت ِ اليوم في قلبي شبابيك جديدة .. وهبتني عشرات الأزهار ..تدرين .. مثلك كنت أتخبّط في تعاسة فظــّة سدّت أمامي مخارج السير ..كان دمي يخرّ في بئر شاحب .. وولدت من جديد ..هذه المرة في سلة توت حين إلتقيتك في ذلك المساء .. في زاوية ذلك القطار .. كنت تلتفين بشال أسود، عيناك كانتا تسحّان مواويل شجية ذكرتني بأغاني الحصاد في قريتي … ، حين تمازجت نظراتنا في ياقوتة صمت أرجوانيّ عرفتُ أنك ِأخت قلبي ..أنـّا ولدنا معا في ليلة عيد بين انهيال غيمات شاردة.. عرفت ُ أن الطريق يدعونا أنْ ندخله دون مقدمات .. أنْ نضئ دهاليزه بفانوس قلبينا …….،
ارتمت بين يديه غزالة وادعة وجدت لونها المفقود… ،
وارتمى بين أنفاسها المتشحة بحناء تموز …،
مشيا في الطريق في غابة برلين تلك… ،
بين انهيال أحلامهما فوق المساء صفقــّت الأشجار ، ..رؤؤس الأحجار المتوثبة في السور ِ …،
صفــّق القمر الأزرق وهو يرتدي معطفه المخملي.. ،
صفقــّت أعمدة النيون ، ..قبــّعات المارة ..،
كانا جميلين كأساطير أزمنة ٍ ساحرة ٍ لم تخرج من تفاصيل الأرض……