قصة

كريستال.

ليلى عبدالواحد المرّاني

كم تعدادي بين أبنائها..! لا أعلم، ولكنني أعلم أن ولادتي كانت عسيرة، مع آخر ضربة فرشاة تنفّست عميقاً وأشعلت سيكارة، امتصتها بعمق ونفثت الدخان باسترخاء وتلذّذ، ألقت نظرةً أخيرة عليّ وغادرت.. نظرتُ إلى نفسي، ثم إلى الولادات قبلي، ألوانها برتقاليّةً متوهّجة، أتساءل، لمَ اختارت لي هذا اللون الترابي بتدرّجاته، غامق وباهت وكأن الحياة فارقته، أو كأنها لملمتني من رمال صحراء مقفرة.
تتوزّع شقيقاتي المشعشعات فوق الجدران العريضة بكل زهو وانتشاء، وأجد نفسي ولوحةً ليلكيّة صغيرة معلّقتين على جدار ضيّق، كنت أتشوّق أن تضعني بين أخواتي البركانيّات كي ينعكس إشعاعها الصارخ على لوني المنطفيء، أنظر بحسدٍ وغيرة إلى اللوحات المشعّة، وإلى نظرات الإعجاب والشرح المستفيض الذي تطلقه – ماما هيفاء – واصفةً إبداعها وما تحمله وراءها اللوحة من أسرارٍ وغموض، أيدٍ ناعمةٍ بضّة، وأخرى تنفر منها عروقٌ زرقاء، كدودِ الأرض، تدفع بسخاء وتقتني هذه اللوحة وتلك، وأنا وجارتي الليلكيّة ننظر باستحياء لبعضنا، وبأملٍ موؤود أن نحظى بنظرة إعجابٍ أو تساؤل، بيعت معظم اللوحات في المعرض، إلاّ واحدة كبيرة احتلّت نصف جدار، يتوهّج فيها اللون البرتقالي وكأنه حممٌ لبركانٍ يتفجّر الآن.. احتفظت فيها هيفاء لنفسها اعتزازاً بها..
رجلٌ مسنّ يتفحّص اللوحة الليلكيّة، تغادرني وأبقى كسيرة الفؤاد!
” يا للفرحة..”، كاد صوتي يصل الأسماع، إمرأةٌ مسنّة وشابةٌ جميلة تقتربان مني، دعوت بسرّي أن أحظى برفقة الشابة ذات العينين الخضراوين، يا إلهي.. إنها تتردّد حين احسّت برغبة العجوز في اقتنائي
— هي لك، فقط أردت مشاهدتها عن قرب..
مبتسمةً تقول المرأة المسنّة
تبتسم ذات العينين الخضراوين، وتغمرني السعادة، سأكون في بيت هذه الجميلة ذات الشعر الكستنائي منسدلاً كالشلّال على كتفيها البضّتين..
أدخل بيتها الأنيق، الألوان منسجمةٌ مع بعضها، الحمد لله، تتلاءم مع ألواني، أنظر في أرجاء الصالة، أتمنّى أن تعلّقني على الجدار المقابل للتلفزيون، أتوسّط ثريّتين كريستال جميلتين تشعّان عليّ؛ فتبرقُ ألواني الباهتة.. ماذا يحدث؟ لمَ أنا مركونةً فوق تابلوه بين ڤازات كريستال مشعّة؟
—لمَ لم تعلّقي لوحتك الجميلة لحدّ الآن..؟
تسألها صديقتها
— سننتقل إلى بيتٍ جديد، وسأضعها في مكانٍ يليق بها..
بهرتني الجدران البيضاء في البيت الجديد، الأثاث أيضاً جديد وأنيق، اللون الأخضر الذي يحاكي لون الحشائش الربيعيّة في أول ولادتها كان هو الغالب، استبشرت خيراً، فألواني ستضيف لمسةً جميلة..
انتظر بفارغ صبر أن يأتي دوري بعد أن استقرّت كل قطعةٍ في مكانها..
— إلى الآن لم تعلّقي لوحتك الجديدة؟
عادت الصديقة تسأل في زيارة أخرى
— ألوانها لا تتلاءم مع ألوان الأثاث الجديد..
— كيف.. الأخضر والبنّي الفاتح ينسجمان تماماً ..
— في الحقيقة لا أريد أن أعلّق شيئاً على الجدران، سأتركها فارغة هكذا.. أجمل
وأسقط في يدي، وانهمرت دموعي؛ فغسلت اللون البنّي واستحال فاقعاً بلون التراب..
أين أنا الآن؟ وما هذا الظلام الذي يحيط بي؟ تتدحرج نظراتي متعثّرةً تستطلع المكان، أشعر أن هناك عيوناً تترصّدني، وأنفاساً مختنقةً حولي، يُفتح الباب، يداهمني ضوء مبهر، بصعوبةٍ أفتح عينيّ اللتين تعوّدتا الظلام، أحاول أن أستطلع بسرعة ما حولي؛ صناديق كارتونيّة فوق بعضها، أدوات مطبخ قديمة، مكنسة كهربائيّة يبدو أنها أحيلت على المعاش! عربة طفلٍ سوداء، وما أدهشني أكثر، ثلاثة أجزاء من كتاب ألف ليلةٍ وليلة الشهير، تقبع أمامي مبتسمةً بشماتة! لا ادري لماذا!
أدركت أخيراً أين أنا، يعود الظلام من جديد يخيّم كسحابةٍ سوداء، انتحبت بحرقة
— لا تبكِ يا صديقتي، سوف تتعودين…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى