الجدة تحكى :
الحكاية الأولى
الحشفة جزيرة في البحيرة تعلو عن سطح الماء قليلاً,يحاصرها الغاب من كل الجهات. هناك ممرات مائية بين الغاب للوصول إليها, ورث الحشفة عبد العاطي عن أجداده..
هي المركز الرئيسي لصيد, البلبول, والغور, والشرشير, والطير الذي يهاجر من المناطق الحارة من العالم وأيضاً الأكثر برودة , إلي الأماكن المعتدلة وخاصة البحيرات التي يكون الغاب بها كثيف ليبنى أعشاش للتزاوج..
مساحة الحشفة لا تتجاوز مائتي متر مربع.
حدث نزاع على هذه الحشفة ما بين عائلة عبد العاطي وعائلة أبوالريش, ودائماً كانت عائلة عبد العاطي هي التي تنتصر في النهاية , لأنها عائلة كبيرة وصوتها مسموع ولها السطو الكبير.
سمعنا حكايات من الجدة ,حكايات جميلة فيها المتعة والإثارة والتشويق, كنا نطلب منها أن تزيد ولا تتوقف وأحياناً نخاف ويتملكنا الرعب, ولكن نلح عليها أن تواصل الحكى , وكبرنا, وكبرت معنا الحكايات ..
كان عبد العاطى شاباً يافعاً قوي البنية وسيماً تحلم به بنات القرية ,وأكثرهن سامراء كانت من قرية مجاورة لقريته, والطريق الأقرب إلى بيته هو الطريق المار من أمام بيتها , تترقب عودته كل أسبوع, عائداً من الصيد, مع أبيه,كانت تكبره بسبع سنوات, توارب شباك غرفتها , وتقف خلفه بالساعات لتراه وهو مار, لا تتمكن من رؤيته جيداً فأحياناً تصعد إلى السطح, وتتخفى خلف أكوام القش, حتى لا يلحظها أحد من الجيران ..
كانت تحاول أن تبوح له بحبها ولكن لا تجد الفرصة, وإذا حانت تستحي لأنها تكبره بسبع سنوات, شاهدها عبد العاطي مرات عديدة فوق السطح ولمحها أيضاً خلف الشباك ولكن كان لا يكترث لأنه لم يدرك هذه المشاعر, ربما لصغر سنه ,أو اهتمامه الزائد بشغله والتركيز فيه , تزوج عبد العاطي بعد موت أبيه, وورث عنه مهنة الصيد, كما ورثها أبيه عن أجداده كان يقضى أسبوعاً كاملاً في الحشفة ويبيت في الكوخ الكائن بها, ليكون قريب من الطيور التي يصيدها ينصب الشباك بين الغاب, والطير الشارد من الشِباك يطلق عليها بندقية الرش لا تفلت واحدة منه, يساعده على الحركة مركبه المربوط بجواره.
كان يعود إلى بيته في نهاية الأسبوع و أحيانا يوم الجمعة تذهب إليه سامراء وتهبط من مركبها فوق الحشفة وتلقى عليه السلام , وتطلب منه أن يحضر القصعة ! وأن يشعل” قلاويح” الذرة, وتضع “الشياطة” فوق القصعة وتشوى ما جادت به شباكها, كما تفعل كل يوم ثم تخرج خبز يندهش عبد العاطى لمنظره ومذاقه, وأيضاً الأسماك التي تأتى بها يسألها: من أين لكي بهذه الأسماك!؟ هل توجد في البحور
التي نعرفها!؟ وهذا الخبزهل يأكل منه كل الناس!؟ أم يوجد في مكان آخرلا أعرفه!؟
هذا الطعام الذي تأتين به ليس له شبيه !
تسمعه وهى تبتسم وقبل أن تنصرف تُوصيه أن ينتبه على حاله حتى تعود إليه في اليوم الثاني .
كانت كل يوم تذهب إليه وتشكى همها والمسئولية التي تقع على عاتقها. ثلاث بنات عبء ثقيل على امرأة بمفردها, لامعين لها ولا سند, كانت تقول بأنها تأتى إلي الصيد لتعمل مكان زوجها وأولادها الشباب الذي ابتلعهم البحر الكبير تقول لعبد العاطى بأنها ترى زوجها وأولادها في الشباك والمياه والمركب تراهم, وتحكي معهم, وعندما يشتد النقاش
لا تجدهم أمامها ,تشعر بالصدمة واليأس وتعيش مع آلامها وأوجاعها ..كان يقول: لماذا لا تأتي بإحدى بناتك لتساعدك في لم الشِباك وطرحها -لا أريد أن أُّهين أولادي, كما كنت أنا ولدت من أم ليس لها أهل سوى أمها التي أنجبتها وماتت, واشتغلت أنا في “ترقيع” شباك الصيادين منذ صغر سني حتى أستطيع العيش أنا و أمي وأبى.
يقولوا بأنه جاء من بلاد مابين النهرين, وبعد ولادتي اختفى ولا نعرف أين ذهب. عبد العاطي يقيم في الحشفة طوال الأسبوع ماعدا يوم الجمعة قبل الصلاة يذهب إلى زوجته وأولاده, كان يحب أولاده كثيراً, وأكثرهم ابنه الصغير “غرام”, هذا الولد جاء بعد معاناة مع الطب ,ولم تستطيع أمه أن تلد غيره بعد ذلك .كل يوم في العاشرة صباحاً يضع صيده في مركبه ويذهب إلي شاطئ البحيرة ليسلم الطيور للتاجر,ويقبض منه الثمن, ويعود إلي الحشفة.
اقترب فرح ابنته “شرشير” يوم الجمعة القادم. قبل الفرح بيوم واحد ذهبت إليه سامراء وأحضرت الطعام كالعادة, استحلفها بأولادها أن تأكل معه,راحت تكرر شكواها.
– منذ فراق أولادي الأربعة مع أبيهم وغرقهم في البحر الكبير ,وأنا نفسي اتقفلت من الدنيا و اللي عليها , والحياة فقدت معناها بالنسبة لي ,ولم أعد أرغب في العيش ..وربنا ينتقم من الظالم اللي أشار على زوجي بهذه الفكرة , أن يترك الصيد في البحيرة ويذهب إلى البحر الكبير.
كان عبد العاطى يحاول أن يواسيها ويطلب منها الصبر, وإن كل شيء مكتوب “واللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”.
كانت في هذه اللحظة تبلغ من العمر خمسة وخمسون عاماً ومازالت فتية ,تنبض بالحياة والنشاط, كان وجهها متشرب بالحمرة وعيناها خضراوتان واسعتان ,شعرها عجيب ليس بالأصفر ولا بالأبيض ولا بالأسود ,ولكن خليط من بين كل هذه الألوان , تظهر له قُصة من تحت الإيشارب الذي تغطي به رأسها. إنها تشبه حُوريات الجنة اللاتي نقرأ ونسمع عنهن ونرسم لهن صوراً في خيالنا من جمال و إبهار..الشيء الوحيد
الذي زاد عليها أن الشمس ظللت وجهها من الصيد , و تقوس ظهرها بعض الشيء من الشقاء والحزن على أولادها وزوجها.
أبيها كثرت حوله الأقاويل ,يقولون بأنها تشبه أباها قبل اختفاءه ,وهناك من يقول بأنه جاء مع الإنجليز, ومن يقول جاء من العراق ليحارب في حرب 48,من أجل فلسطين , وحارب في 67, ومن يقول بأنه استُشهد في حرب 73.
عبد العاطى كان يحب زوجته وأولاده, ولكن شعُر بعاطفة نحو سامراء, ربما من كثرة ذهابها إليه وشكواها.
كانت سامراء إذا نظرت لها نظرة امرأة كبيرة ,وجدت تفاصيل الزمن على وجهها ,وإذا نظرت لها نظرة فتية, وجدتها شابة تمتلئ بالنضارة
و الحيوية,وإذا نظرت لها بعاطفة تملؤها الرغبة, وجدتها فاتنة تُسحرك بعيناها الواسعتين الملونتين ,ويذوب ظل الشمس عن وجهها وتتجلى, عليك بجمالها, وتأخذك أخذاً.
كانت تجلس بجواره وهو يأكل ,فعرض عليها الزواج ,ثم لمس يدها بحنان.. عندما لمسها سحرته بجمالها ,وانجذب إليها انجذاباً ,وزلزلته وكأن موجا عاتياً إحتضنه.. ابتسمت في وجه, وكأن الدنيا جاءت إليه بكل ما يشتهي, ثم وقفت وانفرد عودها, وكأنها في العشرين من العمر وبدا عليها السحر والجمال وتراجعت إلى الخلف بخطوات حسيسة ثم تبدل الوجه رويداً رويداً إلى قبح , وخرج من العينين الجميلتين شراراً, واشتعلت فيها النار..
شعر عبد العاطى أن لهيب النار وتوهجها يقترب منه ليحرقه, وبدا له أن الغاب الذي يحاصر الحشفة يشتعل, وهى مازالت تتراجع إلى الخلف وكأنها في مساحة أكبر من حجم الحشفة بكثير ثم ألقت بنفسها في الماء واختفت واختفي معها مركبها.
كان عبد العاطى في هذه اللحظات ما بين الوعي و اللاوعي ,ما بين الحقيقة والوهم , ما بين الحلم واليقظة ,وراح يتأرجح ويترنح في مكانه ثم سقط على الأرض, منبطحاً وظل يزحف على بطنه حتى وصل إلى الكوخ وهو في حالة إعياء شديدة ,وفقد الوعي وراح في غيبوبة..