دراسات و مقالات

قراءة نقدية لقصة : أرواح هلامية …

هادي المياح .

القراءة :

 

حينما قرات القصة للمرة الأولى لم يلفت نظري العنوان لأول وهلة، لاعتقادي أنه عنوان يشي بالمتن ويدل عليه، لكن حينما تعمقت بالقراءة وجدت انه كان ضرورة ليساعد القاريء على فهم النص، فقد قرات النص ثلاث مرات ولن أكمل كتابة إنطباعاتي عنه قبلما أقرأه ربما للمرة الرابعة .

أقول أن العنوان قسم النص لمحورين مهمين جدا :
 الأول هو أنه حديث عن الأرواح، وهو بالمناسبة حديث مرتبط بالموت الذي تحتفل به غالب الحضارات القديمة، ومنها بالتأكيد حضارة العراق التليدة .
 والثاني، وهو المهم، يتحدث عن تكملة الفكرة الحقيقية وهو وجود ما يسمى ب الهلام، والذي يمكنه أن يحيط بجثة ميتة فتعود للحياة، و لا يراها إلا من هم مكشوف عنهم الحجاب، أو أصحاب البصيرة النافذة .
يبقى السؤال: هل هناك ما يسمى بالبصيرة النافذة، أو المرفوع عنهم الحجاب كما يقولون ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لابد لنا من الإبحار في النص …
ولبداية الأبحار بالنص نعرج على :
الزمان
المكان
الشخوص
الحبكة
السرد
اللغة
الراوي
بداية ونهاية النص
في الحقيقة أن العنوان كان مفسرا ولو بنسبة ضئيلة متن النص، لكنه والحق يقال لم يكن كافيا أبدا و لا مغنيا للقاريء عن متابعة القراءة حتى آخر حرف بالقصة .
وهو ما يعنى أن عنصر التشويق هنا كان حاضرا و بقوة، فالفكرة الأساسية للنص نفسها يمكنها أن تستحوذ على انتباه و اهتمام القاريء، ولم يضيع الكاتب لحظة واحدة في الدخول لمتن النص من أول جملة ( إلتقيتُ به صدفة في المقبرة ) فحدد مسار النص تماشيا مع العنوان، وهنا كانت المقبرة أول معالم النص من ناحية المكان، ومسرحا لحدث طويل يشرح نصف الفكرة، ليأتي نصف الفكرة الثاني في باقي النص، وأيضا كان توطئة لتعريفنا بشخوص القصة، أولا الراوي المشارك، والصديق ذو الندبة في شفته .
والزمان هو ما قبل حلول الظلام، والمقبرة في المدينة التي تقع بها المقبرة، ولعلها أحد المدن المقدسة، إذ أن الراوي عاش في فندق وعاد بالباص لمقر اقامته خارج المدينة.
هذا الزخم في بناء القصة وكثرة الأحداث والأماكن جعلت من السرد متعة تثير الخيال، طبعا ناهيك عن الفكرة الحقيقية للنص .
الشخوص تركزت في الراوي البطل، الشبح الأول للصديق القديم، شبح الفتاة المتوفاة والتي عادت في حلة الهلام، ونادل المطعم وبعض الزبائن ومدير المطعم، وجموع من الشخصيات الثانوية .
في قصة مشهدية كهذه يترك القاص مجالا لخيال القاريء لكي يرسم صورة الشخصيات الثانوية بنفسه مع تركيز الكاتب على عدد محدود من الشخصيات الفاعلة بالنص .
وهنا نجد ان النص يركز على شخص الشبح الذي تقابل معه الراوي في المقبرة فوصفه وصفا عاما، لكنه عرفنا بعدد قليل من الكلمات بفلسفة هذا الشخص، وهذا النوع من القص يحتاج التركيز على الحالة الذهنية لأبطال العمل، وقد نجح فيه الكاتب بدرجة كبيرة جعلتنا لا نهتم لباقي أوصاف شخصية صديق الراوي .
إن بناء نص على فكرة متأرجحة بين التصديق والإنكار يعتبر نوع من الكتابة المتوترة، طبعا إن جاز لنا هذا التعبير، توتر لدى الكاتب يصاحبه بدرجة أو ب
أخرى توتر لدى القاريء، والحقيقة ان شيئا من التوتر خايلني عند القراءة الأولى، لكنه تلاشى شيئا فشيئا عند القراءة الثانية والثالثة، وهذا يدل على أن النص محبوك جيدا ويأخذ القاريء لمنطق الكاتب بحيث يناقش بينه وبين نفسه، هل النص حقيقي أم محض خيال، ثمة عارض لم يريحني وهو إصرار الكاتب على لسان الراوي بعدم قناعته بفكرة الصديق الشبح، كان يمكنه التغاضي عن الإقرار بعد معقولية الفكرة، بل والتماهي معها كما حدث، دونما إلتفات لهذه القناعة من عدمه، وهنا كنا سنعتبر النص واقعا لا محالة في منطقة الغموض ، مما يزيده تشويقا لدى القاريء.
الحبكة جيدة جدا، وقد عمل عليها القاص لفترة ليست بالقصيرة كما أعتقد، فكم الخيوط التي تشابكت كان كفيلا بأن يفلت منه زمام السرد، لكنه كاتب متمرس أمسك بالفكرة جيدا ولم يدعها تترهل بحيث يفقد القاريء شغفه بإكمال القراءة حتى آخر حرف في النص .
وبمناسبة آخر حرف في النص فقد كنت أتمنى أن يتوقف السرد عند (وفجأة استدار الرجل الميت-الحي نحوي ، وكان وجهه يشبه وجه صديقي تماما، ويحمل نفس ندبته السوداء على شفته السفلى.) لأن ما بعدها جاء بمثابة زيادة لم تضف للنص .
اللغة : لغة بسيطة سهلة توصل المعنى بأقل قدر من الكلمات، وغير مرهقة للقاريء العربي في كل بلدان الوطن العربي، ولم تتخللها أي كلمات غريبة، فقط كلمة هولوجرام، ويستطيع القاريء أن يتعرف إلى معناها عن طريق أي محرك بحثي على الإنترنت .
السرد : كما اللغة جاء سهلا بسيطا، منسابا بحيث لا يحتاج القاريء للعودة لبداية النص حتى يفهم الفكرة .
الراوي : استخدم الكاتب تقنية الراوي المشارك بالأحداث( البطل هنا) و كان اختيار موفق، لشرح كثير من دواخل النفس البشرية التي أحسها بطل العمل بسلاسة دونما لجوء لكثير من السرد .
بالمجمل جاء النص جميلا هادئا رغم بعض التوتر فيه، لكنه لم يغفل متعة الإكتشاف والمغامرة لدى القاريء .
القصة ……….
ارواح هلامية
التقيتُ به صدفة في المقبرة ، صديق قديم تميّزه ندبة سوداء على طرف شفته السفلى، لا مجال للشك بما يقول او يدعي. تحدثنا كثيرا ونحن نسير في طرق متعرجة، تعترضنا مع كل خطوة شواهد تكاد تكون مهدمة أو مندثرة لتقادم الزمن. لم استوعب ان يكون كل هؤلاء الخلق تحت الارض ، بعد ان قضوا حياة قد تكون قصيرة أو طويلة .. شقية أو سعيدة . لا أحد يعرف ما تحقق من أحلامهم التي ماتت بموتهم . هذا ماكنت افكر به على الاقل مع نفسي، أما صاحبي الذي كان يتقدمني ، فلا أعلم بما يخبئ لي. فقد رأيته يتباطأ قليلا فلحقت به وتوقفت الى جانبه . أمسكني من كتفي كأنه يريد أن يهمس لي بشيء تذكره. لكنّه ظل صامتاً لدقائق وعيناه شاخصتان على شاهد أزيحت عنه بقايا السقف من الجانبين..هنا لاحظته يزمّ طرف شفته السفلى فتغوص الندبة قليلا داخل فمه.
ثم خطا نحو الشارع وتبعته حتى إذا اختلطنا بالجموع، أشار الى فتاة من بينهم وقال:
تلك هي الفتاة التي أخرجتها لتوي من ذلك القبو . لقد استجابت لطريقتي وها هي الآن تتحرك كالأحياء!
امتشقتُ جرأتي وبادرت بسؤاله ما إذا كانت هي ميتةً فعلا و أعادها إلى الحياة، ام انه يمزح مستخدماً خدعاً بصرية او تقنيات الهولوجرام وما شابه. فأكد لي :
-هي ميتة فعلا وما زالت، لكنها الآن حية كما ترى! هناك أرواح هلامية تعشق الوجود وهي ميتة بالأصل.. واذا لم تقنع بما قلت، ماذا ستفعل لو قلت لك انا لا أؤمن بالموت، وأن الحياة عندي نهر مستمر الجريان . والوجود كله حياة إذا حرصنا جميعا أن نبقى احياءً.
صعقت من هول ما سمعت!
ورغم اني غير متيقن من صحته، وارجّح انه لا يعدو كونه محض خدعة. لكنّي لا أريد تكذيبه، ورحت اسايره حتى النهاية، وقلت له:
ومن يميّز هذه الفتاة الميتة- الحيّة عن غيرها ؟
علي بهدوء وقال :
انت من يستطيع ذلك، عندما تكون قادراً على التركيز والتخيل ، يظهر لك الجسد محاطاً بغشاء هلامي قد لا يراه غيرك، كما لو كنت في حلم. وأكد لي بأن هناك من يمتلك تلك القدرة رغم ندرتهم.
في الفندق، بقيت افكر بالامر. وكذلك في باص العودة. وفي البيت طيلة الليل.
افكر، وافكر.. وقررت الاطلاع على فنون استحضار الارواح والقوى الخفية.
قضيت شهرين وأنا معتكف لم اعلن ذلك السر لأحد . وفجأة في وقت متأخر من الليل، كنت اتمشى بين أروقة المنزل، وقد اقتنعت بأني قد حققت تقدما كبيرا، وان قدرتي على التخيّل أخذت تتنامى بشكل جيد. وأصبحت ارى ما لم يره أحد .غمرني شعور بالراحة. ورحت اقفز في الهواء، اضرب بلا شعور كل حائط وحجر يصادفني.
وفي آخر ساعات الصباح كنت وحدي متعباً وأنا اقترب من مشارف المدينة اشم من بعيد رائحة المقبرة، التي تبعث على السأم . وعندما دخلتها وصرت اتخلل بين الشواهد، شعرت برأسي ليس على ما يرام، كأنه يحمل فكرة ثقيلة محيّره. لكن احساسي بالرائحة قد تلاشى او اصبح أقل بكثير من السابق .
تدت قليلا، وقد ارعبتني خطورة الفكرة، فهي ليست هينة او سهلة، وتحتاج الى جرأة وقلب من حجر. كذلك وجودي بمفي، قد يعرضني لامر ليس بالحسبان، فأخسر كل حياتي. تذكّرت كلماته:
” عليك أن تؤمن بفكرة انك ستواجهه، في أي مكانٍ او زمان . وان تقف أمامه بمفك. تحصر به مجال الرؤيةِ، حتى تخترقه نظراتك بشكل تام. فيتجلى لك في العمق. ثم يكون أمامك وجها لوجه. وإن ظهر بملامح غير واضحة ، فعليك أن تتذكر انها تجربتك الاولى “
لكن المكان لايخلو من الزائرين الذين لفتوا نظري وهم يتنقلون بشكل زمر وجماعات، وبعدة اتجاهات. وفجأة، ميزت من بينهم رجلاً يحيط به غشاء هلامي!
شملتني الغبطة، و اهتزت له جوانحي.. وشعرت بتسارع في نبض أوتي..لقد ميزته من الخلف بشكل جيد، مما زادني ثقة بنفسي. ليس من السهل ان تجد ما تميزه كما قال لي صاحبي.
كان الرجل يسير ويخترق الجموع فتبعته، وكلما لحقت به وجدت بيني وبينه مسافة كبيرة. ومن حركة ذراعيه، بدا لي توتر الغشاء الهلامي في المفاصل وفي منطقة تحت الابط. مما شدني اكثر ، وولّد لدي شعور بالراحة. واصلت متابعته خطوة بخطوة ، لحقته عند حافة الشارع الذي يعترضه شارع فرعي . توقفت لصقه تقريباً، لكنّه لم يكترث لي ابدا. في هذه الاستدارة عبقت بانفي من خلف الكمامة رائحة المقبرة.. ولازمني شعور بالضيق من فشل الخطة ، فهذا الرجل الميت -الحي يبدو حديث عهد وقد تكون المرّة الأولى التي يخرج من قبوه. فهو لا يشبه الفتاة التي رأيناها سابقاً ، والتي كانت تجوب الشوارع وتتجول بين الناس بكل حرية، تتعلق بذراع هذا وتمزح مع ذاك.
اتذكر في المرّة السابقة، اني سايرتها شخصياً حتى عبرت حدود المقبرة الغربية ، فلحقت بها قبل أن تعبر الشارع الرئيسي.. وكنت امسك بذراعها بنية الوصول معها أبعد من ذلك. آنئذ شعرت بنعومة الغشاء الهلامي الذي يحيط بها. وادركت انها ظلّت تتجولاً دون ان يعرفها احد. وقد نوهت لي بذلك بعد تناولنا وجبة غذائية لمّحت لي بعدها انها كانت ستموت من الجوع ، لولا هذه الوجبة!
اتذكر اني لم اسيطر على نفسي ، عطست وضحكت وسكنت قليلا، كنت اتساءل مع نفسي: كيف أنها ستموت من الجوع وهي ميتة فعلاً ؟
كان المطعم خاليا تماما.. لا ادري لماذا اخترت جناح العوائل. ولو ان هذا لا يهمنا لأن أحدا ما لا يستطيع رؤيتها .. ولا توجد خشية لو اني ملتُ اليها قليلا اثناء حديثي. لكنّي فعلا تجاسرت بعد تناولنا الطعام، ورحت اضمها الى صدري حتى التصق بي الغشاء الهلامي، وكان شكلي آنذاك ، مثل شخص يعاني من مغص في بطنه. واذ انا هكذا، جاءني العامل مهرولا وسألني ما إذا كنت مريضاً او بحاجة إلى شيء ؟
فأجبته بلا .
كان للفتاة سحراً مميزاً وهي ميتة. لكنّي ما زلت لا اثق بها وبجدية وجودها . بنفس القدر الذي جعلني غير مطمئن لما أقدمت عليه منذ البداية. بعد خروجنا من المطعم، لم يعد بإستطاعتي رؤيتها او الشعور بوجودها.
على قارعة الطريق،رأيته من بعيد يجلس بجوار بائع شاي غير مألوف، بعد مسيرة اشعرتني بالإعياء. فكرت الاتصال بصديقي لعله يفيدني بشيء ما ، لكنّه لم ي علي.
كنت أقف خلفه مباشرة ، بعد أن لفّ بي كل الشوارع ليقف أخيرا عند حافة حفرة عميقة يخرج من فوهتها ما يشبه الدخان او الضباب.. وثمة خيط من الشعور بالقلق لعدم التكهن بما سيحصل.. فقد كانت تخيم علينا دائرة مبهمة من الظلام. فكرت بأي طريقة تجعله يستدير نحوي ويواجهني، لكن شيئا من ذلك لم يحصل ابدا. سرحت مع نفسي وانا اعاتب صديقي على كذبه:
لستُ بخير يا صديقي، لقد فشلتْ كل محاولاتي بفضلك ، نعم لقد فشلت!
صحيح انك طمنتني وقلت لي بأنك ستنجح شرط أن تؤمن بالفكرة أولا، لكن مشكلتي يا صديقي ان ايماني بالفكرة ضعيف ، او قل اني لا أؤمن بها اطلاقا.
وفجأة استدار الرجل الميت-الحي نحوي ، وكان وجهه يشبه وجه صديقي تماما، ويحمل نفس ندبته السوداء على شفته السفلى. وحين سمعته يزأر بوجهي ، شعرتُ كأن قوة خفية دفعتني الى الخلف، ورأيت انياباً طويلة مقوّسة تخرج من فمه!.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى