لقد ترددتُ طويلا في كتابةِ رُؤيتي الإنطباعيةِ حولَ الروايةِ خِشيةَ أن أحيدَ عن الموضوعيةِ واستلزمَ الأمرُ بالأخيرِ أن أُلمْلِمَ شَتَاتِي و أجمعَ بعضًا من أدواتي وكثيرًا من الشجاعةِ الأدبيةِ فجاءَتْ عاصفةٌ مُدويةٌ ومُحَاصِرَةٌ جهاتي الأربعِ فلم أستطعِ التقدمَ إلى الأمامِ أو التراجعِ للخلفِ.
وأعترفُ بشدةِ انبهاري واعجابي بالروايةِ ولقدِ احْتجْتُ قراءةً ثانيةً متأنيةً تستوقفُ التفاصيلَ المبطنةَ الدقيقةَ .
وعلى خلفيةِ الروايةِ الإجتماعيةِ و الملابساتِ السياسيةِ
إن الأمرَ أشبهُ بالصَّدمةِ التي خَلَّفَها وقع الإنفجار على الجاني، والضَّحيَةُ خَلَقتْ شخصًا آخرَ،
الضَّحيةُ التى تحاولُ دائمًا بترَ الجزءِ المتضررِ على الصعيدِ الجسدي والنفسي، والجاني يحاولُ دائمًا تبريرَ فعلهِ وإيجادَ ذريعةٍ لقبحِ عملهِ .
فالحروبُ و التطرفُ تجلبُ من المآسي ما لا يوصفُ وتُغَيِّـرُ ملامحَ البشرِ وطِبَاعَهُمْ.
فقدِ اسْتَطاعَ الكاتبُ بحنكتهِ ومهاراتهِ الإبداعيةِ أن يُطَوِّعَ أدواتِهِ اللغويةِ والتعبيريةِ ويخلقَ أفضيةَ الدهشةِ منذ بدايةِ السردِ وحتى الختامِ.
وأن يخلقَ وحدةً بنيَوِيةً روائيةً مترابطةً ومتناغمةَ الوحداتِ والأحداثِ، ويصطنعَ الخطوطَ العريضةَ والمُغايراتِ المُثيرةَ لمعطياتِ الحربِ، وما نتاجُ المواقفِ الأدبيةِ إِلَّا مواقفٌ أخلاقيةٌ فلا يستطيعُ أيُّ كاتبٍ أن ينسلخَ مِنْ واقعهِ.
لعلَّ أهمَّ ما يميزُ هذهِ الروايةَ عن مثيلتِها من الرواياتِ، تلك الجرأةُ التي امْتَلكَهَا الرَّاوي
كنقلةٍ نوعيةٍ مُتحدِّيًا بها الثالوثَ المُظلمَ ومُتخطِّيًا (التابوه) الذي لا يمكن مناقشتٌهُ إلَّا من خلفِ الأبوابِ المُغلقةِ
وما كُنتُ أَحْسبُهُ إلَّا دَاخلَ كهفٍ مظلمٍ لا يستطيعُ الفِكاكَ منهُ ولا يصدُ عنهُ سبيلًا، فمزجَ بين الواقعيةِ والرومانسيةِ في إطارٍ حداثيٍّ وُجْدِيٍّ معاصرٍ معتمدًا التفسيرَ المنطقيَّ للأحداثِ والتحليلِ النفسيِّ لشخوصِهِ، مُقْتَنِصًا من حدثهِ زاويةً وموضوعًا ومن شخوصهِ رؤًى يعالجُ مشاكلَهمْ التي باتتْ تؤرقُ حياتَهُمْ وتعوِّقُ مسيرتَهُمْ في الحياةِ .
وإذا ما كانتِ الروايةُ مثلَها كمثلِ فنونِ القصِ تعتمدُ في بنائِها على بعضِ العناصرِ التقليديةِ إلَّا أنها تمتازُ بالامتدادِ العرضي الذي لا حدَّ له، وترسمُ فضاءَاتِه شخصياتٌ مأزومةٌ يحرِّكُها حدثٌ معينٌ (الشظية) وتنطلقُ منه، لتغوصَ بأعماقِها وتسطرُ مخاوفَها وهواجسَها وصراعاتِها الوجدانيةَ..
ذلك الإمتدادُ الذي تسيرُ فيهِ الروايةُ هو الإمتدادُ الرأسي والنفسي لشخوصِهِ.
روايةٌ احْتلَّ فيها الإنسانُ البسيطُ الصدارةَ له من الملامحِ والسِماتِ والطبائعِ ما يتفقُ والأدوارُ المنوطةُ له في إعادةِ صياغةِ وهيكلةِ الحدثِ، فرسمَ
(نور) كشخصيةٍ مِحوريةٍ تتنامى بتطورِ الأحداثِ
أنموذجًا حيًّا لزوجةِ شرقيةِ أربعينيةِ، وأمومةِ مبكرةِ وزَّعتْ عالمَها و اهتمامَها بين زوجِها وطفلتيها ( لبنى وميس) أصيبتْ في آخرَ إنفجارٍ مُفخخٍ داخلَ أحدِ أسواقِ بغداد ويفتتحُ الكاتبُ روايتَهُ مُستهلًّا بمشهدٍ منتهًي بوصلةِ رقصٍ والذي تحاولُ البطلةُ من خلالِهِ
التخلصَ من مشاعرِ المعاناة
كنوعٍ من العلاجِ، وأعتقدُ أن الاستهلالَ جاءَ يحملُ طابعًا مُبطنًا وساخرًا لمأساةٍ ذاتِ زركشةٍ ودلالةٍ فنيةٍ
لتضيفَ عنصريَّ التشويقَ والإثارةَ للقارئ
هلِ الرقصُ علاجٌ ودواءٌ؟!
بالطبعِ نعم.
كما تُجيدُ الروايةُ طرحَ الأسئلةِ، يجيدُ (محورَ النقدِ) الإجابةَ عليها،
لقدِ اتُّخِذَ الرقصُ في الثقافاتِ القديمةِ ك مصر الفرعونيةِ والشرقِ أسيوية وحتى والطرائقِ الصوفيةِ -المولويةِ- محاكاةً لموسيقى الطبيعةِ
وثيمةٍ للطقوسِ الدينيةِ، كنوعِ من التطهيرِ للنفسِ المتألمةِ كأداةٍ للتعبيرِ تخاطبُ بها الوجدانَ ووسيلةَ للارتقاءِ الروحي تتجلَّى به
لقد اتَّخَذَتْ نورُ من الرقصِ علاجًا تُداري خلجاتِها واضرابَاتِها، لشظيةٍ استباحتْ جزءًا من جسدِهَا واحتلَّتْ مكانًا له طابعُ القدسيةِ الأنثويةِ أَبْقَتْها على قيدِ المعاناة لا تستطيعُ ممارسةَ حياتِها الزوجيةِ أو حقَّها الطبيعي من الحياةِ.
وإذا ما كانَ الجسدُ وِعاءً للرُّوحِ والجسد بلا روح مجردُ جِيفةٍ ساكنةٍ، فالأولى أن نوليَهُ رعايتَنا على اعتبارِ حافظةِ الروحِ يقوى بها و تقوى به.
جاءَ الزوجُ في بنيةِ السردِ الحكائي شخصيةً أساسيةً ومعزِّزةً للشَّخصيةِ المحوريةِ
متحديةً الصعابَ والعقباتِ التى طرأتْ على الظروفِ الحياتيةِ على زوجتهِ .
قدمت الروايةُ في عنوانينِ أحدهما رئيسي
-شظيةٌ في مكانٍ حساسٍ- وهو يمثلُ الحدثَ الذي انطلقتْ منهُ شرارةُ الروايةِ
وعنوان فرعي
-إنفجارٌ آخرُ مفخخةٍ في بغداد-
وما ليسَ بآخرَ مفخخةٍ لكنَّ هنا الزمنَ الماضي
هو حاضرُ الراوي وامْتدَّ بامتدادِ السردِ الحكائي.
بدأ السردُ الوصفيُّ بلغةٍ رشيقةٍ متدفقةٍ وذاكيةٍ يجمعُ ما بين السردِ والحوارِ ونادرًا اللغةُ المحكيةُ
كشلالٍ ينسابُ في أجواءٍ مخمليةٍ، حاملةً معهُ دعوةً شَبقيةً مثيرةً لا ينطفئُ وهجُها،
تتقدُ جَذوةَ الجسدِ وتدبُ الحياةُ لتعودَ نورٌ من جديدٍ تلتحمٌ بالحياةِ، لأولِ مرةٍ منذ ستةٍ أشهرٍ.
ليكتشفَ بعضًا من التحولاتِ السريةِ والخفيةِ في جوانبِ شخصيةِ زوجتهِ.
وما بينَ الرغبةِ المثيرةِ والقدرةِ على الإشباعِ تتشكلُ الأحداثُ وتتصاعدُ وتيرتَها ، وإذا ما كان الجنسُ يأتي في قاعدةِ مثلثِ الحاجاتِ الفسيولوجيةِ كما حددهُ (ماسلو) كالطعامِ والشرابِ فلا غِنى عنه.
تتحولُ نورٌ كذئبةٍ بشريةٍ تلتفُ حولَهُ ذاتِها متعطشةً للجنسِ، ما أن تتلوى بتنهيدةٍ وصرخةٍ مكتومةٍ حتى يتخثرَ الدمُ في عروقهِ. وكما ذُكِرَ على لسانِ الروائي في ختامِ الفصلِ الأولِ
“زوجتي شظية جارحة”
ولعلَّ المدِعَاةَ للدَّهشةِ في السردِ المتخيلِ هو ذلك العملُ الذي يمزجُ القوةَ والخيالَ الخصبَ المُتقدَ وغيرَ المتوقعِ ومَلئهِ بالعاطفةٍ الجياشةٍ والهواجسِ الرنانةِ.
لتبدأَ بعدها ذروةُ الأحداثِ تتصاعدُ وتتواترُ.
ويبدأَ صراعُ الزوجِ مع ذاتهِ وشعورهِ المضطربِ، وتزداد مخاوفُهُ ويُسيطرُ الشعورُ على
بعضِ الخلجاتِ السلوكيةِ والعرضيةِ المركبةِ
في صوتِها والمُستحدِثِ لسلوكِها
كلفظة
لا تخرجْ – اقتلِ الشظيةَ – خائفةٌ – أريدكَ – لا تتركني
هذا الإطارُ الذي شكلهُ الكاتبُ يجعلُ القارئ يتفاعلُ مع حقيقةِ الاضطرابِ ويكشفُ عنهُ
بواطنَ الساعةِ الجنسيةِ وتتحولُ دقاتُ الساعةِ الرتيبةِ لزمنٍ مُضنً باعثٍ على القلقِ والانتظارِ وليتحولَ إلى قيدِ أبديٍّ في عنقهِ .
ويضيفُ الرواي
بُعدًا جديدًا و تقنيةً تتفردُ بها الروايةُ “التنبؤ”
ويتكثّفُ هذا الشعورُ الزمني البطئُ الحركةِ للتَّحولِ إلى شكوكٍ وتنبؤاتٍ
بما يحملهُ فكرُ الرجلِ الشرقي من نظراتٍ وتوقعاتٍ تشاؤميةٍ
ماذا لو؟!
ما تخشاهُ فقط يحدثُ
لم يستطعْ تداركَ الأمرِ، فهي الزوجةُ المسكونةُ بشظيةٍ
فيساعدُ بذلك القارئ على فهمِ الشخصيةِ، وإدراكِ أبعادِها النفسيةِ والاجتماعيةِ والفكريةِ.
و يكتسبُ المكانُ دلالتَهُ على اعتبارِ أنهُ مسرحُ الاحداثِ.
إنهُ الواقعُ الذي يتحركُ فيهِ شخوصهُ بعلاقاتهِ وقيمهِ والتى تحافظُ على توازنِ جماعاتهِ
استطاعَ الرواي رسمَ هندسةٍ واضحةٍ لمعالمِ المكانِ
وتوظيفِها فنِّيًّا والتي ساهمتْ في تشكيلِ طبائعِ شخوصهِ ليصورَ وينقلَ حالةَ القلقِ والتوترِ الذي يعيشهُ افرادهُ وجماعاتهُ والكياناتُ المنسجمةُ وغيرُ المنسجمةِ
ليضيفَ إلى رصيدهِ الخلقَ الفنيَّ فلا نستطيعُ لمسَ الأشياءِ دونَ ماديةٍ واقعيةٍ في
هذا البلدِ الذي عانى الحربَ المشؤومًةََ لثرواتِه النفطيةِ
وصورَ حجمَ الضررِ الناجمِ عنها وكمِّيَةَ الفظائعِ التي ترتكبُ بحقِّ المدنيينَ العُزَّلِ
والتي انعكسَ على مواطنيهِ فخلَقتْ منهُ إنسانًا على درجةٍ عاليةٍ ورفيعةٍ من الوعي والإدراكِ.
وعيٌ بالعملِ ومحافظٌ على علاقاتِه
وعيٌ بالشارعِ ومباعدٌ عن الجدلِ العقيمِ
الوعيُ الوطنيُّ حافظًا ومحافظًا على تماسكهِ ووحدةِ جماعاتهِ
إنهُ المخرجُ الذي يتحركُ بشخوصهِ من الاستديوهاتِ المغلقة للمفتوحةِ في إطارٍ حُرٍّ لهُ لها من التفاصيلِ الدقيقةِ مايسمحُ بإعادةِ صياغَتِها الجماليةِ واللغويةِ ونقلتِها من صورتِها الساكنةِ إلى الصورةِ الحركيةِ النابضةِ للحياةِ.
هذا الخلقُ الفني له دورٌ في إيهامِ القارئ واكسابه صدقُ التصويرِ وواقعيةِ الحدثِ.
الاسترجاعُ( flash back) عبرَ استعراضِ شريطِ ذكرياتِها الدالِ على القولِ أو التذكرِ أو التفكيرِ
ومثلُ هذا النوعِ من التقنياتِ يعمدُ فيه الرواي كنوعٍ من التحفيزِ الباعثِ على الاستنارةِ.
وتكرَّرَ في السردِ الحكائي مراتٍ متنوعةٍ
في شخصيةِ ساجدة وإعادةِ الزوجِ لشريطِ الذكرياتِ
بالتاكسي تارةً والمصعدِ تارةً أُخرى
تلك الموظفةُ في دائرةِ العملِ والتي وظفَّها الراوي بحرفيةٍ شديدةٍ
كنوعٍ من المقارنةِ بينَها وبين زوجتهِ وما للحربِ من تأثيرٍ في نفسيةِ الزوجِ فهي أنموذجٌ لكيانٍ أنثويٍّ مكتملٍ لم تنلْ منه الحربُ كما نالتْ من جسدٍ زوجتِهِ.
وفي ردهةِ الطوارئ ص 218
وهذا الشريطُ المستعادُ والمشاهدُ المتكررةُ
التي
تعوقُ مسيرتَهُ الحياتيةَ فتتشكلُ ضبابيةً فكريةً تحملُ رائحةَ الدخانِ والبارودِ والأشلاءَ الممزقةَ.
لقدِ استطاعَ الرواي رسمَ لوحةٍ مراتبطةٍ و متداخلةِ
الألوانِ لوحةٍ (ميلودارمية) ممسكًا بناصيةِ اللغةِ، اللغةُ المُنسابةُ والشفافةُ والمحكمةُ
بمنولوجاتِها الداخليةِ فَعكستِ الواقعَ المريرَ
وما لنا من الحروبِ والفسادِ والطائفيةِ
إلَّا حظُ كلبٍ تافهٍ قضى نحبه مئات السنين من الطاعةِ العمياءِ.
تلك الروايةُ التي نسجتْ آلامَ ومعاناةَ الشعبِ العراقي
تاركةً أثرًا لا يُمحى بذاكرتي و ذاكرة الأيامِ.
أرجو أن أكونَ وفِّقتُ في تقديمِ رؤيةٍ مختصرةٍ وواضحةِ المعالمِ وأتمنى للكاتبِ دوامَ التوفيقِ والنجاحِ.