دراسات و مقالات

قراءة في القصة القصيرة تشكيلات العتمة


محمد الليثي / مصر

هذا هو العالم الفاتن للقصة القصيرة
. الفاصل الضئيل بين العقل والجنون. البشر بأهوائهم، وهواجسهم، ومخاوفهم. طموحاتهم، وآمالهم، وخطاياهم. صراع نفحة الروح مع جوهر الطين. تعتمد القصة على حكاية، لكن القصة ليست الحكاية، بل الروح التي تستخلص عذابات الروح، وتستقطرها في بوح كالهمس. ومواراة، ومخاتلة. كل محاولة لكشف سر القصة القصيرة لا تنجح إلا في ستره, وإبهامه. ليس عليك كقارىء أن تفهم، أو تحيط بالأسرار، يكفيك أن تشعر بعذابات أخيك الإنسان، وأن يلمس فؤادك ذلك الوهج الذي يسطع في لحظة استجلاء جوهر التناقض الإنساني. ” مبروك عليك .. يتربى في عزك ” .. تلك الخاتمة التي نزلت – لا ريب – برداً وسلاماً على قلب المرأة المشتاقة. لكنها ألقت بالقارىء في غياهب العتمة. فالراوي العليم يعلم أضعاف ما باح به . لكن علمه ليس تاماً . يتميز الراوي عن القارىء في حضوره كمراقب للمشهد، لكنه يستوي معه في الجهل بحقيقة ماحدث في المقبرة. وهو وإن احترم تقاليد المسكوت عنه، إلا أنه أفلح في استدراج القارىء ليشاركه هواجسه وشكوكه بشأن حقيقة مادار فوق الرمال الناعمة داخل المقبرة. يعالج القارىء بفضل السرد الواعي ذات الأزمة التي يعالجها الراوي. وتكاد الحقيقة تستقر في وجدانه, ولا يفلح في دفعها رغم غياب البينة . 
ومن مظاهر تميز النص نجاح الكاتب في صنع عالم مادي مساو في قتامته وسحريته لقتامة وسحرية التجربة القصصية. فالشخصيات هلامية غير محددة المعالم, وحوارات الشخصيات مقتضبة تلغرافية، وغالباً في اتجاه واحد، لا تواصل حقيقي بين الشخوص. والمشهد بأكمله وإن كان على لسان الراوي إلا أنه مصبوغ برؤية المرأة ومخاوفها وأوهامها, والقارىء يرى الشخصيات تقوم بأفعال, لكنها أفعال لا تستند إلى واقع حقيقي, بل أشبه بالخيال, لكنه يدرك أن ثمة أمر ما لا يطابق المعلن. هذا من الناحية الفنية فيما يخص السرد .
أما من حيث الموضوع فيحسب للكاتب تصديه لقضية من القضايا المتعلقة بالعادات والتقاليد التى تعكس الهوة الثقافية التي تفصل أهلنا في المناطق غير الحضرية عن روح العصر ومفاهيمه . بل والإيغال في التصدي لواحدة من القضايا المسكوت عنها لتماسها مع مقتضيات العفة والفضيلة. والتي ربما أدت في أبغض صورها إلى شكل من أشكال اختلاط الأنساب .. فالقهر الواقع على المرأة . ذلك القهر الذي يجعل من عقم الزوج سيفاً مصلتاً على استقرار حياتها الزوجية يدفعها في الأغلب إلى قبول المغامرة المحفوفة بالمخاطر والأسرار، بل ويدفع المجتمع المحيط إلى قبول الغطاء الوهمي لواحدة من أحط الممارسات الاجتماعية التي تتم في العلن. وقيمة الفن تكمن في استطاعته التصدي لما تعجز المؤسسات الرسمية عن الخوض فيه, فالكلمة على يراع أديب متمكن وفاهم, يمكنها أن تنكأ القروح دون ألم, ويمكنها أن تكشف المستور دون أن تفصح . 
قرأت العديد من الأعمال التي تعالج تلك الممارسة الرهيبة التي يتداخل فيها البيئي بالإنساني بالعقائدي. وأظن أن هذا النص يرتقي لأن يكون من أفضل النصوص التي عالجت هذا الموضوع.
وربما يكمن الفارق في العناية التي وجهها هذا النص للإنسان. فالقارىء لا يري ولا يعي إلا من خلال وعي الضحية المساقة إلى الطقس الرهيب. 
أسجل إعجابي البالغ بالحبكة، وبالسرد، وبمهارة الكاتب الذي استطاع أن يتقمص الشخصية ببراعة منقطعة النظير، والذي تمكن من نقل التجربة بدقة متناهية مستعينا بالإشارات، والإيحاءات، والإيماءات بشكل يدلل على حنكته وفهمه التام لموضوعه من ناحية، وللأسرار فن القصة القصيرة من ناحية أخرى. 
محسن الطوخي
_________________

نص القصة:

تشكيلات العتمة

حوْلها سواد الحواري الضيقة، وعتمة المساء تحت حذائها البلاستيكي، أرض رخوة تغوص فيها تخاف أن يسمعونها ، بقلق تحسست الباب الخشبي ، وجمعت ظلها من لمبات الشارع ، أسندت ظهرها إلى الحائط ، وتنفست ببطء. خافت أن تعكر صمت المكان، نقرت على الباب، ضمت الملاءة حولها. كان الليل مستريحا مستمتعا بالنوم على البيوت والناس، احتواها فحضنت خوفها، اهتز الباب وأطل من خلاله زوج من العيون المستفسرة. ببطء واجهت الباب وعلى وجهها ابتسامة باهتة، لم تر ذلك الجسد الضخم المنزوي فوق ظل الباب، وحدها سمعت صوتا نسائيا خشناً يلقي داخل البيت كلمات قصيرة: الأمانة وصلت .
كانت عيناها بالخوف تحصي ما بداخل البيت. طشت الغسيل، موقد الفحم ، الجوزة، حصير قديم. والحائط يحمل بعض طلاء باهت. شباك مفتوح ، والصورة الكبيرة للشيخ، بعينيه النافدتين. أحست بالخوف، فهو داخلها قائم يعرف بالتحديد ماذا سوف تفعل ؟
تراه في كل مكان، بعمامة، بغير عمامة، جلبابه مفتوح، والستارة القائمة خلفه خضراء، ربما حمراء، فهو يتلون، يتشكل على أي صورة يريدها، يطير في الهواء، ويذهب إلى الأراضي المقدسة في غمضة عين، يصنع في أحاديث الناس طربا، نشوة، خوفا، يعرف ويحدد. لأجل ذلك تمنت أن يخفيها، أن يجعلها شيئا لا يرى. تعلقت بعينيه وهو قائم داخلها يحاورها، أحست أنها محتاجه إلى سند، سند من القوة لكي لا تخاف .
مر الرجل من جوارها وهي واقفة، أغلقت المرأة الباب وهي لم تتحرك، هزها الرجل فتلفتت حولها ولم يسمعها صوته، بل أسلم وجهه إلى الطريق، فأسه على كتفه، منحنيّ ربما، سرواله طويل متسخ، والسديري على فانلة بكم، لا يلتفت خلف، الحركة الوحيدة هي حركة يده يرفعها إلى فمه، ثم يهبط بها ليبقى خلفه دخانا كثيفا كقطار قديم يمر .
بصمت، والليل تقطعه لمبات متناثرات، وحيدات، كاشفات عورة البيوت المتهدمة والأسطح التي تسكنها الكلاب، وهي تلملم نفسها كلما أحست بالخوف. كح الرجل، ثم تمخط، وبصق على الأرض. نادى على الولد النائم دوماً خلف مقام الشيخ، بصوت عصبي جاءته كلمة أنا، بينما رفع الولد يده إلى عينيه فاركاً إياهما، مطيرا عصافير نومه، حك ظهره بأظافره، ولملم صوت الرجل حين قال :هات الكريك معاك .
دخل الولد المقام وخرج، دخل مرة أخرى. وتناثر حول المكان صوت حديد يتخبط ، كانت هي ما تزال خلف الولد والرجل .. الرجل والولد .. الرجل يخرج السيجارة، وقبل أن تنتهي تكون الأخرى قد أشعلت، ويبدأ صوته العصبي في الانتشار :
المره رجعت تزن تاني .. على موضوع الخلفه.
أمبارح قالت : أن في دكتور جاي من بره.
أقول لها : يا وليه ده أمر ربنا، برضه محكمه رأسها أني أروح معاها
والولد مطرق، هي الأخري مطرقة، وحين يخرج الولد كلمات بارة .. بقرف ينسل صوت الرجل :
– ربنا ما أردش .. نعترض .. ولا نعترض.
ويصمت .. فينتشر الليل والصمت، وحفيف حركات الأرجل حولهم .. خلفهم، هي تحتفظ بتلك المسافة، وينتهي الطريق، يسلمهم الليل بلونه الأسود إلى طريق المقاب الموحش، المظلم، المضيء
بعيون الموتى التي ترى في الظلام. تحت قدميها يبدأ التراب الناعم في الوصول، بيدها تتلمس القبور، وعلى البعد، أمامها هو يتوقف الرجل ، تتلفت بخوف، تندس داخل ملاءتها ..أمامها هو بصمت، يميل الفأس على جانبه ويسحب التراب. خلفه الولد يسحب أيضا. خلفهم هي بعيون تسمع ولا ترى، تعرف أنها أقدمت على نهاية المطاف. قال لها زوجها وهو يندس بجوارها في إحدى الليالي الكثيرة :
ربنا يجعلها ليلة مباركة ..ويرزقنا بالولد الصالح.
ولأن الولد لا يجيء بكثرة الليالي .. لأجل ذلك فعلت كل شيء، ولم يبق غير شيء واحد .. ارتعشت أمامه، انتبهت إلى صوت الرجل يتناثر حولها (بسم الله الرحمن الرحيم ) كأن الراقد تحت التراب قد انكشف، الرأس الملفوفة بالغطاء الأبيض الذي تحول بفعل المكوث الطويل إلى أصفر باهت مهترئ. بتلك الرهبة التي يحدثها الموت في البدن. تحسس الجسد الممدد، حاول أن يضمه إلى صدره، لكنه تكسر وتناثرت أجزاؤه تحته . يهمس الولد، يحفر بجوار الميت .. فيما كان الرعب قد احتواها وحولها إلى قطعة سوداء، وحيدة متسمرة مكانها لا ترى ولا تسمع همس الولد .. الرجل يهبط إلى الحفرة ويتحسس ثم يخرج .. وهي تنظر برعب .. شيء من المؤكد لا يمكن وصفه ..فكرت أن تقول :
نساء كثيرات قبلها فعلن ذلك
كأن الرجل مازال يهبط داخل الحفرة يساوي جزاءً هنا .. يرفع الحصى يتحسس بيده ثم ينام داخل الحفرة، وعندما يطمئن أنها نظيفة ناعمة، يشير إليها، ترتعش . وبيدها تفرد الملاءة، فينكشف الجزء الأكبر من جسدها العاري .. بيضاء، تضيء ليل المقابر بالرغبة التي تنتشر في الجسد، فتملك الليل .. كالمسحورة تسير لا تعرف إن كانت هي أم لا .. برعب اقتربت .. لامست كومة التراب .. بخوف العروس خلعت حذاءها البلاستيكي .. وعلى الوجه كانت ابتسامة باهتة، ربما من زمن قديم. دخلت الحفرة واقفة ترتعش .. ببطء حاولت أن تجلس، بمؤخرتها العارية لامست باطن الحفرة، قفزت، أحست بالخوف، بالرعب الذي يحدثه انكسار الحلم .. جلست مرة واحدة، تمدد الجسد داخل الحفرة الجديدة بجوار القبر القديم، أغمضت عينيها وغابت عن الوعي .. حولها كان الرجل يجمع التراب، ينثره فوق الجسد الممدد .. التراب يلتصق بفعل العرق المتفصد من الجسد المحموم .. ترتعش هي من ملامسة حبات الثرى .. ويد الرجل تصطدم .. ترفع يدها وتحمي ما بين فخذيها. حين ينتهي الرجل يفرك كفيه على الجسد، يتحسس الصديري، ويسحب علبة السجائر، وخلف أحد القبور يدخن بصمت. يهمس الولد ويبدأ في سرد الحكايات.. سر مقام الشيخ .. ونساء الفيلم الأخير. الرجل يدخن بصمت، الصوت ينتشر، النائمة بالخوف لا تسمع. لكنه هناك قائم داخلها يحثها أن تصبر لكي تفوز بذلك الحلم القديم .. الرعشة تزداد .. وأعضاؤها بالرعشة تتحرك، تهتز ذرات التراب فيبين جزء هنا، وجزء هناك، تشهق، فيرتفع الثدي كنصل الخنجر، ثم تئن. بصدرها العاري .. تئن، فيصمت الولد، ويطفئ الرجل السيجارة. تستجمع باقي جسدها، وتصرخ صرخة عظيمة، ترفع من خلف القبر رأسين .. بعيون لا تحمل معنى، تتابع الجسد الذي ينثر خلفه ذرات التراب. على البعد تكون زوجة الرجل صاحبة الجسد الضخم قد تلقفت الجسد في ملاءة خضراء .. تلملمه من عيون الليل .. والقبور .. وتهمس لها :
مبروك عليك .. يتربى في عزك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى