دراسات و مقالات

عمى الطين – الكاتبة والقاصة العُمانية الصيدلانية إشراق النهدي

السعيد عبد العاطي مبارك

 

تقطن الكاتبة و الصيدلانية العمانية إشراق بنت عبد الله فارس النهدي بمحافظة ظفار ( أرض اللبان ) ٠
حيث الطبيعة الفيحاء ، و التاريخ و التراث ، و مفردات عبقرية المكان لبان و بخور و عطور و نخيل النارجيل ، و خريف صلالة ، بيئة شكلت وجدانها و فتحت نافذة فكرها علي العالم بلا حدود فتمضي تسجل مشاعرها في ومضات تسرد الواقع و الصراعات ، و تداخل زيف المدينة، فتسترجع لنا تراثنا الشعبي تارة أخري في تقريب و تواصل بالحوار و المحاكاة ، فهي تمتلك قدرة فنية وطاقة جمالية تسافر بها بين مسافات القلق و الحيرة هكذا ٠٠ !! ٠
و تخرجت في كلية الصيدلة اتجاه علمي مشروعا بموهبة الادب و الفنون الجميلة ٠
تقيم بمدينة الجمال و التاريخ و التراث و الموروث الثقافي و المخزون الحضاري ( صلالة ) ٠
تعمل في ظفار بمجمع الديوان الصحي ، و تمارس ابداعاتها الفنية و فارسة بين أروقة الثقافة في الداخل و الخارج ٠ عضو في مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء- فرع محافظة ظفار ٠

لها عدة مؤلفات خاصة:
الأحمر، خرفجت، روزيشيا، حائط مموج، وأمواج ريسوت.

قامت بالمشاركة في إعداد وتأليف عدة كتب جماعية منها:
أبجدية أولى جزء ١، و٢ و٣.
وعندما تورق الكلمات جزء ١،و٢.
تأليف كتيبين للأطفال بالتعاون مع الجمعية العمانية للسرطان بعنوان: السر وحديث الأواني.
لها كتاب سرد عربي مشترك مع كتاب عرب بعنوان: على ضفاف السرد
وكتاب سرد جماعي مترجم للانجليزية من قبل الدكتور: عبدالله الطيب بعنوان ( معراج على أجنحة السرد).
لها مشاركات على الساحة الثقافية في محافظة ظفار.
ومثلت السلطنة في بعض المحافل الثقافية داخل وخارج السلطنة.
نشرت في أغلب الجرائد العربية والمحلية.

* حول فن السرد :
===========

تحاول الكاتبة العمانية إشراق النهدي ( زهرة صلالة ) أن تقتحم هذا الفن – السرد – بجدارة حيث تمتلك موهبة التدفق الفني داخل لغة و صور و أخيلة مشروعي بموسيقى عذبة الانتقال مع الجمل و المفردات في تناسق هرمس مبني علي الإقناع ٠
بل تفتح زوايا و مسارات هذا الاتجاه من حس تراثي جمالي توظفه نحو تقارب يجمع شتات الأصالة و الحداثة في خطين متوازيين نحو قيم و قمم إبداعية تجسد لرؤيتها معالم الواقع ، و تجنح بنا الي مخزون خيالي خصب في محاكاة تتلاقي الروح بالجسد حصاد رحلة زمن معطرة بعبق المكان الحضاري في تلقائية هكذا ٠٠
و عندما نتأمل رائعته التي اشتهرت بها بين أرباب السرد الحداثي التي تقدمه بمثابة لوحات فنية منثورة والزهور في بستانها الأنيق ترسم ظلالة في دلالات تكشف لنا أسراره والجواهر النادرة ٠٠٠
كما تدور كتابتها عن قصتها ( خرفجت ) ذات الموروث الشعبي حكايات عالقة في الذكريات منذ نعومة اظفارها ، تسترجع الحياة اليومية في توازن مع صراع المدينة الاسمنتية الزائفة في لحظات استثنائية استشراقية ترسم معالم أبجدية متجذرة ، لكن بأسلوب ساخر يعالج قضايا اجتماعية من منطلق الطفولة عن استخدام فن
كاريكاتوري – تتحدّث عن الضحك الأسود (الكوميديا السوداء) لإظهار البؤس المشوب بالمثالية والكمال.
و من ثم جاءت كلمة الشاعرالروائي ( نصر سامي ) و التي يقول فيها عن قصة “ خرفجت ” في لهجة أهل ظفّار الجبالية أو الشحرية هي تلك اللعبة المعروفة في العالم العربي كلّه باسم الحجرات الخمس، وهي هنا كناية عن الكتابة.

فالكتابة هي لعبة الإنسان الأخطر منذ وجد على سطح الأرض. والكاتبة في هذا الكتاب تتقدم أشواطا في نسج نص قصّصي منفتح على منجزات السرد في جوانبه التقنية، مع الانتباه إلى الخصوصية المحلية.
وهي تحاول أن تنصت إلى إيقاع مجتمعها.
باحثة عن المغايرة مع سابق نصوصها. من أجل إثراء مسارها القصصي الخاص”.

***
نموذج قصصي لها بعنوان ( عمى الطين !!٠ ) تجسد فيه فلسفته التأهيلية نحو أصل الأشياء بين التحولات ، و فيها تذكرنا بفلسفة ايلياء أبي ماضي حينما نسي الطين ٠٠ أيضا ٠٠

مع القصة :
تتجه نحو معملها بخطى متمهّلة، تتبع مسارها اليومي المألوف، أصابعها اليمنى تزحف على الجدار متكئة، ترفع ذيل ثوبها المسترسل تحت إبطها اليسار لئلا تتعثر به. تلف إلى اليمين خطوتين، ثم تهبط درجتين، بعدها تمشي عشر خطوات إلى الأمام، وعلى اليسار تحط يدها على مقبض باب الحجرة وتفتحها لتدخل، تمشي سبع خطوات مجددا ثم تجلس على الكرسي في مواجهة الطاولة التي تشتغل عليها، وعندما تمد يدها إلى اليمين، تجد الطين المدر قد جُهز لها؛ لتتناوله ثم تضعه على العجلة الدوارة. وحده اللمس كفيل بتوضيح كل المعالم، فلا حاسة أخرى تضاهيها، ونحن نتحسس الأشياء نمتزج بها، ونبرم معها تآلفا وتعارفا يمد جسوره إلى باقي الحواس، ورغم السواد المطبق على بصرها فإن بصيرتها تشع نورا يضئ دواخلها، وثمة قدرات أخرى تنبت لها براعم روحية تشبه الموسيقى التي تسافر عبر الوجدان.
تعلم حَلوت أن قيمة حياتها تنبع من الحرفة التي أتقنتها منذ صغرها، فقد ورثتها عن والدتها التي كانت تصنع السعفيات: كالحصير والمدّة ، وجيلت والقرقور . وتشكل الفخار ببراعة كمن يعجن نفسه مع قطعة متصلة به، فتشكل المجامر المربوعة وكدحانوت ، وتصنع الجحلة والزهريات والجرة، وتدهن الفخار الجديد من الداخل بالزيت النباتي ليتشربه خلال يوم كامل، وما برحت تجد وتجتهد كثيرا وتجلس على الأرض وتصنعها على صينية كبيرة إلى أن أصيبت باحتكاك في الركب عندما طعنت في السن. لكن حلوت كانت انتقائية فحصرت حرفتها، واختارت التعامل مع الطين فحسب، فطورت صنع المجامر الخماسية والسداسية الشكل على طاولة خاصة بها. فقد اعتقدت دائما إن يديها خُلقتا لتعيد عجن روحها ورؤاها من خلال ترويض الطين. عدا ذلك فهذه الحرفة تدرُّ أرباحا وفيرة ساعدتها على تأمين مصاريف الحياة.
دخلت عليها حفيدتها قائلة بحماس: “حبوبة ، حبوبة آنيفداش، سوي لي وجه طين”. تبتسم حلوت، وتمرر يديها على وجه منال، وبتأنٍ بالغ تتحسس تفاصيل ملامحها، ومن ثم تغمس يديها في الماء لترطبهما، وتعجن الطين الذي أحضره “راجو” الخادم الذي ينظف البيت، ويرتب معملها ليجهزه لها. تبدأ بتشكيل الهيئة التي حفظتها بيديها. تغرق في التفاصيل والمنحنيات الدقيقة والمتعرجة. وبعد نصف ساعة تصرخ منال فرحة وضاحكة: “هذي أنا، أيوة، هذا وجهي”.
تسترجع حلوت ذكريات شبابها، ومدى مهارتها وتفوقها في التلاعب بالطين، فقد صنعت آدم وحواء ذات مرة في صدفة غير مدبرة، إذ كلما نوت صنع مجسمات وتماثيل بشرية، كانت تسقط أضلاعها دون سبب واضح، حتى إنها جُرحت ونزفت يومها من أصبعها بغرابة ومن دون مبرر، فاختلط دمها بالصلصال، لكنها رغم ذلك أخذت الضلع المتساقط وخلطته بطين إضافي وصنعت حوا ء، إذ تخيلت آدم وحواء متحابين ومتجاورين، فصنعتهما آية في الجمال والكمال، وعرضتهما في صالة بيت والدها، متباهية ومزهوة بهما، الكل انبهر من دقتها وبراعتها، عدا ذلك فقد تلقت عروض شراء كثيرة ومغرية، رفضتها جميعا. ولكن بعد عدة أيام سُرق آدم، كان أحدهم قد سطا على البيت؛ فنبش واستولى على ما غلا ثمنه، وحمل معه أدم أيضا.
وبعد يومين وجدوا آدم في فناء البيت محطما. وعُميت حلوت من يومها، وكانت حينذاك في الثامنة عشر من عمرها. بينما بقت حواء وحيدة من دون زوج طيني تأنس له وتنتمي إليه. الموجودون المبصرون من حولها أخبروها عدة مرات ومن دون تفسير، بأن ثمة دموع تترائ في عيون حواء الطينية، وكانت كلما تلمست وجه حواء وجدته رطبا بالفعل. فأخذتها وأخفتها في دولاب ملابسها التي كانت تتبلل بين الحين والآخر.تتذكر حلوت قبل أن تُعمى، كيف كان يفتن بها ذاك الفتى الذي يجلب لها الطين المدر من منطقة طوي أعتير في حقيبة مصنوعة من قماش يُحاك من شراع السفن، إذ كان يعمل ويكبد المشقة للحصول على كميات صغيرة.
بينما الآن تبدلت الظروف فالمواصلات والغرافات سهلت المهمة. حلوت تزوجت الفتى نفسه بعد فقدها للبصر، وأنجبت منه أولادا كبروا بمهارة متأصلة في كفوفهم، وفي قلوبهم ورثوا حب الحرفة، وحالفهم الحظ؛ فأنشأوا شركة خاصة لصنع الفخار والخزف والفسيفساء الملونة، بينما هي أبقت على معملها لتقضي وقت فراغها وتتسلى بممارسة حرفتها الوحيدة التي تتقنها.
وبينما حلوت سارحة في الذكريات، دخل باقي أحفادها إلى المعمل وأحدثوا جلبة كبيرة،إذ كانوا منبهرين بوجه منال الطيني. يسألها فاتك قائلا: “حبوبة خبرينا قصتك لما كنتِ صغيرة؟”. منال: “حبوبة أنت يونانية؟”
تضحك مستغربة: “ليش عاد؟”
منال: “لأن اليونان أحسن ناس تصنع الفخار”.
مهند: “لا لا هي من العصر الحجري، لأنها تعرف تسوي الطين من زمان، صح حبوبة؟”.
حلوت: “لا فداك حبيبي، مش من العصر الحجري، بس نحن العمانيون استعملنا الطين من زمان في أغراض كثيرة. خبروا والدكم يوديكم منطقة البليد، هناك حصلوا مصباحين من الطين يعودان إلى ما بين القرن العاشر والقرن السادس عشر الميلادي، وكذلك حصلوا على قطعة من الطين المحلي؛ اُستعملت في تزيين الجدران وأراضي المباني في البليد تعود إلى القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي”.
يدخل والد فاتك، يسلم على والدته وهو يقول: “ليش تزعجون حبوبة؟”. حلوت: “لا والله ما زعجوني. استعصرهم ، فداهم”.
منال: “بابا احكي لنا قصة أرجوك؟”.
والد فاتك يقول: “مممم… بأخبركم قصة التمثال”.
منال: “لا، لا، كل مرة تخبرنا نفس القصة، بس ما بغينا”.
تضحك حلوت، وتقول: “خبرني آني بغيت أعرف”.
والد فاتك: “طيب يامّا، كان يا مكان في قديم الزمان، كانت هناك قرية شاهقة على جبل منعزل، وكان أهلها أثرياء يغتسلون بالحليب ويلبسون الحرير المزخرف بالألماس، قرية لها جدران من ذهب وبوابة من الفضة المرصعة باللؤلؤ الأبيض والمرجان، وكانت البوابة تُفتح كل صباح ليدخلها الفقراء من القرى المجاورة ويعملون لديهم في التنظيف والطبخ وغسل الحيوانات ورعيهم، وكل الأعمال الوضيعة مقابل مبلغ زهيد من المال، ثم تُغلق البوابة وقت الغروب بعد خروج الفقراء، وكان هناك اتفاق بين القرية الثرية والقرى الفقيرة؛ بأن من يخالف هذا الاتفاق سيتعرض للعقاب، وفي أحد الأيام حدث أن فتى ثري أحب فتاة عاملة كانت تنظف لديهم، وتأتي كل صباح وترحل مساءً، وعندما عُلم بهذا الحب تم إنزال العقاب بالفتاة وتحولت إلى تمثال يبكي دماً كل ليلة، بينما الفتى عندما رأى تمثالها فقد بصره وعاش من دون كلام… على سالفة التماثيل، تذكرت يامّا، وين التمثال يلي صنعتيه مال الحرمة الي سميتيها حواء؟”.
حلوت: “مخبياتها في الكبات”.
تجري منال نحو الدولاب لتفتحه، وهي تقول: “بغيت أشوف، وينها؟ حبوبة”.
يجري خلفها مهند، ويتسابقان لفتح الدولاب، ثم تتناولها منال من تحت الثياب، ويخطف مهند منها التمثال، يتضاحكان، وهما يركضان خلف بعضهما، منال تسترجع منه التمثال وتهرول.
حلوت تقول، محذرة: “وينكم؟ يا ربي.. قليكم تَطِيحون وتُطيّحون حواء”. يشرع والد فاتك للحاق بهما، ويجري فاتك ورائهما بقوة مطاردا، بينما يعدو مهند هاربا، ويقع على منال التي تسقط وهي تجري بالتمثال.
تعذر على حلوت تخيل المشهد، لكنها سمعت أصوات عدة، وخطوات سريعة على الأرض، ثمة ارتطام أجساد، ومن ثم وقع شيء ما منزلقا على الأرض، فجأة استعادت حلوت بصرها، وفي وسط ضباب أبيض وبقع سوداء ونقط ملونة، بدأت تتضح الرؤية رويدا رويدا، ثمة تمثال مكسور على الأرض، ميزّت حواء التي كانت مفتتة إلى قطع كبيرة، وسيل دم أحمر لزج ينبع من جوفها.

***
هذه كانت وقفة سريعة عن ظاهرة السرد في ابداع الكاتبة العمانية دكتورة إشراق النهدي ، بمثابة حصاد يومي ذاخر باللغة و التصوير و إيقاعات ذات همس يتوج تجربتها في إطار تعبيرات تلقائية تختصر الزمن و المكان بروح التراث الشعبي و تجليات تشرق من اعماق النفس الانسانية دائما ٠
مع الوعد بلقاء متجدد لتغريدة الشعر العربي أن شاء الله ٠

Image may contain: 1 person, sitting and indoor

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى