وصم فريق من المفكرين الغربيين ـ من المستشرقين وغيرهم ـ العرب بأنهم جنس محدود الخيال، عاجزون عن التفلسف، لايندهش لشئ .. وأن أقصى امتداد لخياله أن يبتكر استعارة، أوكناية، أوتشبيهًا، لكنه لايستطيع أن يضع تصميمًا لعمل مركب، كالمسرحية، والقصة، تتعدد فيها المواقف، وتتفاعل الشخصيات، وتمضي فيها الحوادث المتنامية وفق مخطط مدروس بدقة، وأن غاية ما نُقل عن العرب ـ مما يقارب هذا الفن ـ بعض الأخبار والنوادر التي تُنقل عن مجالس الكبراء والعلماء؛ دون أن تمر بمرحلة التأليف الأدبي، أي إعادة التشكيل؛ لتحدد لها غاية جمالية وفكرية أو اجتماعية؛ مماينبغي أن يكون للقصص من غايات تحمل الناس على قراءتها، للمتعة والفائدة معًا.
وقد اتخذ د. محمد حسن عبد الله ـ في معرِض إثارته لهذه القضية ـ من كتاب قديم وُضِع في القرن الرابع الهجري، منطلقًا لبحث هذه القضية المعاصرة ..
يقول: والكتاب الذي نعني يسمى كتاب ” الفرج بعد اشِّدة” لمؤلفه المحسن بن علي، المعروف بالقاضي التنوخي، وقد عاش هذا القاضي في عصر بني بويه، أي العصر العباسي الثاني، ابان القرن الرابع الهجري، وتولى منصب القاضي في البصرة، وواسط، والأهواز، ولم تمنعه أعباء المنصب، وجلالة القضاء، ورواية الحديث؛ أن يلتفت إلى القصص والأخبار فيجمعها، ويرتبها تحت عناوين فرعية، وفي اطار شامل دل عليه عنوان الكتاب: ” الفرج بعد الشدة”.
وفي اطار التحليل الفني لمحتوى الكتاب يقول:
وإننا إذ نتأمل هذا العنوان نجده قد اختير بسليقة فنية بارعة، فتركيب الحكاية داخل القصة، أو المسرحية؛ لم يضف جديدًا إلى ” الفرج بعد الشدة”، أو لنقل ـ حسب الترتيب المنطقي ـ شدة يعقبها فرج، حتى وأن سماها النقد المعاصر: الأزمة والحل، أو أطلق عليها منظرو فن القصة القصيرة المعاصرون: الحادثة ولحظة التنوير.
بهذا الحس الفني الرهيف ؛ انتخب القاضي التنوخي مئات الحكايات والأخبار والقصص، المشروطة بوجود أزمة، أوشِدَّة، يعقبها فرج، أو حل، أو نقطة تنوير، تكون ختامًا لها، فأمدَّنا بسيل زاخر من صور الواقع النفسي والاجتماعي لمختلف طبقات المجتمع العربي في القرن الرابع الهجري، وماسبقه من قرون.
وماأجدر كتاب الفرج بعد الشدة أن يضيف وضوحًًا وعمقًا لصورة المجتمع وحركته في عصور لم تُعرف فيها مناهج الدراسة الاجتماعية أو النفسية، ولم تكن الطبقات الدنيا موضع اهتمام جَدِّي، فهذا الكتاب يملأ ثغرة واضحة في مسار الثقافة العربية وهو ـ بصدد مانحن فيه من مناقشة، عن صلة العرب القدماء بالفن القصصي ـ خير مايقدم كوثيقة شاهدة على قيام هذه الصلة، بقدر تجاوزت فيه المتاح للآداب القديمة، المناظرة في العصر، وفي الشكل.
من الطبيعي ألا تكون قصص كتاب التنوخي جارية على مفهوم القصة القصيرة كما نعرفها اليوم، إننا لو طالبنا بذلك نكون في غاية التعسف، وانكار دور الزمن وتجارب الأجيال في انضاج التجربة، والبلوغ بها إلى غايات لم تكن معروفة في عصور سلفت، وإذا كان العُرف النقدي يعتبر تشيكوف، وجي دي موباسان رائدين لفن القصة القصيرة؛ فإن هذا يعني أن عمر هذا الفن لايزيد على قرن إلا قليلا، ويعني أيضًا أن ما نطالب به القاص الحديث لم يكن موجودًا في الشكل القصصي قبل هذين الرائدين: تشيكوف وموباسان.
ثم .. علينا أن نعترف بأمرٍ آخر ـ إذا أردنا أن ننصف أنفسنا، وننصف الحقيقة العلمية ـ وهو أن لكل شعب، ولكل ثقافة تقاليد وخصائص هي مما يميزها عن غيرها، وتؤكد أصالتها .. وإذًا فإنه من الظلم الفادح للحقيقة أن نقول أن العرب لم يعرفوا الفن القصصي؛ لمجرد أنهم لم يكتبوا قصصهم على طريقة موباسان أوعلى طريقة تشيكوف، فقد كانت لهم طريقتهم الخاصة.
لقد كان الارتباط بالواقع سمة أساسية، من هنا جاء الحرص على ذكر السند، أو راوية القصة، وأسماء شخصياتها في حالة أن يكون لهم وجود تاريخي، كما أدى الارتباط بالواقع إلى إيثار الطبقة الوسطى والطبقة الشعبية بكم زاخر من القصص والحكايات، تكشف عن أسرار حياة تلك الطبقات التي لم تنل حظها من العناية.
….. وأخيرًا نتوقف عند الجانب الفني: تشكيل المادة القصصية .. وهو العامل الحاسم الذي يجعل من هذه الروايات الإخبارية عملاً فنيًا، أو مجرد سرد تاريخي .. وقد أشرنا من قبل إلى أن اختيارات القاضي التنوخي جاءت مشروطة بالأزمة والحل، أو الشدة ثم الفرج ـ كما آثر في عنوان كتابه ـ ومعنى هذا أن الاختيار قام على التركيب الفني أساسًا، ولكنه تجاوزه إلى أسلوب الصياغة، وإلى التصرف في الشكل الفني، تصرفًا ينبغي أن نُعرف به، لأنه من المنجزات ذات القيمة الفنية، التي مضى عليها ألف عام.
لقد استخدم التنوخي الوصف والحوار والتحليل، بالطريقة التي يستخدمه بها الكاتب القصصي المعاصر؛ ولكنه ـ أكثر من ذلك ـ استخدم أسلوب القصة داخل القصة ، وهذا الأسلوب لم تعرفه القصص والروايات إلا مؤخرًا، وحين ابتكر “برانديللو” أسلوب (المسرح داخل المسرح) في أوائل القرن العشرين؛ اعتير عمله كشفًا غير مسبوق، كما نجد القصة التي تروى على التتابع، من وجهات نظر مختلفة، فيذكر الحكاية كما رآها شخص محدد، وإلى المدى الذي رآه هذا الشخص، ثم يبدؤها شخص آخر؛ فيكشف عن مرحلة أخرى لم يعرفها الأول، وتفسير مختلف يدعمه بما رآه، ثم يظهر ثالث، وربما رابع، على النحو الذي نهجه نجيب محفوظ في رواية واحدة من رواياته، وهي ” ميرامار”… بل إن القاضي التنوخي اهتدى بغريزته الفنية إلى استخدام الرمز، وما يقرِّب من المعادل الموضوعي : إذ نجد .. رجلاً بائسًا لايملك غير طائر من نوع نادر، حبسه عنده ولايستطيع إطعامه، وتقترب جرادة من الطائر؛ فيعجز ـ لضعفه ـ عن اصطيادها، وصاحبه يرقبه، وكأنما يرقب نفسه، ويقرأ مصيره بين الرخاء والبؤس في محاولة هذا الطائر الضعيف .. وبعد أكثر من محاولة فاشلة؛ يبتلع الطائر الجرادة، ويرضى عن نفسه وينام، وهنا ينتعش الأمل في قلب الرجل، ويخرج من بيته يبحث عن فرصة عمل .. ويجدها
وفي النهاية يرى الكاتب أن هذا الكتاب قمين بإنصاف تراثنا القصصي، وتنوير فكرتنا عن الخيال عند العرب وعلاقتهم بالفن القصصي.