ذهب الشّبابُ فما له من عودةٍ وأتى المشيبُ فأين منهُ المهرب ؟
دعْ عنك ما قد فات في زمن الصّبا واذكرْ ذنوبكَ وابكها يا مذنبُ
واخشَ مناقشةَ الحسابِ فإنّه لا بدّ يحصي ما جنيتَ ويكتبُ
والليلُ فاعلم والنهارُ كلاهما أنفاسُنا فيه تعدُّ وتحسبُ
” من القصيدة الزينبية ”
————–
– قال عنه الخطيب البغدادي ( شعر صالح بن عبد القدوس كله حكم وآداب).
– وقال عنه ياقوت الحموي:(كان حكيم وأديب وفاضل وشاعر مجيد)، فإذا سمعت شعرًا، ولا تعرف من قائله وتعجبت من جمال حكمه وقوة تنظيمه وعند مراجعته تجده الشاعر صالح بن عبد القدوس.
ذكره الثعالبي في كتابه ” لباب الآداب ” وقال عنه :
” كل شعره حكم وأمثال ”
وقد عجب ابن المعتز بشعره بل شك في أن يكون زنديقاً لما له من شعر في الزهد والحكمة والترغيب في الجنة والإعراض عن الدنيا
قال ابن المعتز :
أما الرجل فله في الزهد في الدنيا والترغيب في الجنة والحث على الطاعة لله والأمر بمحاسن الأخلاق وذكر الموت والقبر ما ليس لأحد وكان شعره كله أمثالاً وحكماً فمما يستحسن له قوله :
تأوبني هم فبتُّ أخاطبه .. وبت أراعي النجم ثم أراقبه
لما رابني من ريب دهرٍ أضرني .. فأنيابه يبرينني ومخالبه
وأسهرني طول التفكير إنني .. عجيب لدهر ما تقضي عجائبه
أرى عاجزاً يدعى جليداً لغشمه .. ولو كلف التقوى لفلت مضاربه
وعفّا يسمى عاجزاً لعفافه .. ولو لا التقى ما أعجزته مذاهبه
فيا عجبا كيف يمكن أن يقول زنديق مثل هذا القول ؟! وكيف يكون قائله زنديقاً ؟
ومما يختار من شعره قوله – والحديث لابن المعتز -:
فو حق من سمك السماء بقدرةٍ .. والأرض صيّر للعباد مهادا
إن المصر على الذنوب لهالكٌ .. صدقت قولي أو أردت عنادا
و قال عنه ابن معتز: تكون أشعاره كثيرة، فهي موجودة عند كل الناس.
عندما نتجول بين أغراض الشعر العربي و نعمق في شعر الفكرة و الفلسفة و الزهد و الحكمة و الكلام و الأخلاق و القيم ، نتوقف مع شاعر مخضرم ألا و هو ” صالح بن عبد القدوس ” و الذي ألف الحكمة و الزهد من خلال رؤيته للحياة كما فعل المعري بعد ذلك أيضا
و برغم فلسفته وزهده و حكمته كان شعره ينطق بالجمال و الغزل في مطلع القصيدة ، فالكثير من أشعاره كاننت تبدأ بمقدمة غزلية ولكنها كانت تتسم بالجمال، وبعدها يتطرق لمواضيع حكمية وأخلاقية، لذلك يكون صالح بن القدوس من أشهر الشعراء في هذا المجال.
يقول ابن عبد القدوس في قافيته الرائعة :
المَرءُ يَجمَعُ وَالزَمانُ يُفرِّقُ
وَيَظلُ يَرقَعُ وَالخُطُوبُ تُمَزِّقُ
وَلَئِن يُعادي عاقِلاً خَيرٌ لَهُ
مِن أَن يَكونَ لَهُ صَديقٌ أَحمَقُ
فَارغب بِنَفسِكَ لا تُصادِقَ أحمَقاً
إِن الصديقَ عَلى الصَديقِ مُصدَّقُ
وإذا حملت إلى سفيهٍ حكمةٍ
فلقد حملتَ بضاعةً لا تَنْفُقُ
وَزِنِ الكَلامَ إذا نَطَقتَ فَإِنَّما
يُبْدي عُيوبَ ذَوي العُقُولِ الْمَنْطِقُ
وَمن الرِجالِ إذا اِستَوَتْ أحلامُهُم
مِن يُستَشارُ إذا اِستَشيرَ فَيَطرِقُ
حَتّى يجولَ بِكُلِّ وادٍ قَلْبَهُ
فَيَرى وَيعرفُ ما يَقُولُ فيَنطِقُ
عندما نتوقف مع الشعر العباسي نجد شاعر حكيم زاهد اتهم بالزندقة فقتله شعره ربما يكون حسدا و حقدا ووشاية فأنه كتب في الزهد و الورع و فلسفة الحياة و الموت و الحكم و الأمثال فنستبعد كل ما حدث له
نشــــــأته :
———-
صالح بن عبد القدوس احد شعراء الدولة العباسية ، و يعتبر الشاعر صالح بن عبد القدوس من الشعراء المخضرمين،
ولد في الربع الأخير من القرن الأول الهجري، وتربي في مدينة البصرة، وكان ملازما للحلقات الأدبية والعلمية، وانتقل إلى مدينة بغداد في بداية العصر العباسي حيث عاصر الشاعر العصر العباسي وأيضا العصر الأموي، فكان يتميز بالبيان الرائع، واللسان الفصيح، ويتصف بالحكمة الكلام، جمال الشعر، وتلمس بين سطور أشعاره الموعظة والحكمة، فالكثير من شعره يغلبه آداب والحكم والأمثال،
– عمى الشاعر صالح بن عبد القدوس في أخر حياته، وكان من شعراء الدولة العباسية وعاصر اثنين من الخلفاء الراشدين والمهدي، وكان سعره جيد، وتتصف أبياته بمحاسبة النفس، والزهد في الدنيا، و الحكمة و لم لا فهو حكيم متكلم حيث كان يعظ الناس في مدينة البصرة، وكان شعره يتميز بقوة( الألفاظ- دقة القياس- التعليل- التدليل)، وكان شعره يدور عن البعد عن الدنيا وكل متاعها وكان يذكر في شعره دائما الموت والغناء، وكان يحث على الأخلاق الحميدة، والعمل على طاعة الله.
وهو من الشعراء الذين خاضوا في مواضيع تخص علم الكلام، وذلك سبب في اتهامه بالزندقة
فأختلط الأمر بين الناس في ذلك الوقت.
قتل على يد ( الرشيد العباسي) حيث قتل بطريقة بشعة حيث صلبوه على جسر بغداد، وظل متعلق لعدة أيام، وتوفي الشاعر صلاح بن عبد القدوس في 160 هجريا، وذلك بعد ثلاثين سنه من سقوط الدولة الأموية،
و نقدم نموذجا من روائع شعره من خلال أشهر قصائده القصيدة ” الزينبية “:
—————————- ———————————–
و التي تعد من أجملُ ما قيلَ في النُّصحِ و الحكمة حيث يزن الكلام و المعني قياسا عقلانيا وجدانيا في تناسق بهيج يشرق بين ثنايا الروح في صفاء وربقة ايمانية ترسم معالم المنهج القويم حيث يقول صالح بن عبد القدوس فيها :
ذهب الشّبابُ فما له من عودةٍ …… وأتى المشيبُ فأين منهُ المهرب ؟
دعْ عنك ما قد فات في زمن الصّبا …… واذكرْ ذنوبكَ وابكها يا مذنبُ
واخشَ مناقشةَ الحسابِ فإنّه ….. لا بدّ يحصي ما جنيتَ ويكتبُ
والليلُ فاعلم والنهارُ كلاهما ……. أنفاسُنا فيه تعدُّ وتحسبُ
لم ينسهُ الملكانُ حينَ نسيتهُ ……. بل أثبتاه وأنت لاهٍٍ تلعبُ
والرُّوح فيك وديعةٌ أودعتُها ……. ستردُّها بالرغَّم منك وتسلبُ
وغرورُ دنياك التي تسعى لها …… دارٌ حقيقتُها متاعٌ يذهبُ
وجميعُ ما حصلتَه وجمعتَه ………………حقّاً يقيناً بعد موتك ينهبُ
تبَّاً لدارٍ لا يدومُ نعيمُها ………… ومشيدُها عمّا قليلٍ يخربُ
فاسمعْ هُديتَ نصائحاً أولاكها ……. بَرٌّ نصوح للأنام مجرّبُ
أهدى النصيحةَ فاتّعظْ بمقاله ……….. فهو التقيُّ اللّوذعيُّ الأدربُ
لا تأمن الدّهرَ الخؤونَ لأنّه ………….. ما زالت قدماً للرجال يهذّبُ
وكذلك الأيام في غصاتهم ………… مضضٌ يذلُّ له الأعزّ الأنجبُ
ويفوز بالمالِ الحقيرُ مكانةً ……….. فتراه يرجى ما لديه ويرغبُ
ويسرُّ بالتّرحيبِ عند قدومه ………… ويُقامُ عند سلامهِ ويُقرَّبُ
فاقنعْ ففي بعض القناعةِ راحةٌ ….. ولقد كسي ثوبَ المذلَّة أشعبُ
لا تحرصنّ الحرص ليس بزائدٍ …في الرّزق بل يشقي الحريص ويتعبُ
كم عاجزٍ في الناس يأتي رزقهُ ………..رغداً ويحرمُ كيس ويخيّبُ
فعليك تقوى الله فالزمها تفزْ ………… إنّ التقيَّ هو البهيُّ الأهيبُ
واعملْ بطاعته وتنلْ منه الرضا ……………..إنّ المطيع لربّه لمقرَّبُ
أدّ الأمانة والخيانة فاجتنب …… واعدلْ ولا تظلم يطيبُ المكسبُ
واحذرْ من المظلومِ سهماً صائباً ……. واعلم بأنّ دعاءهُ لا يحجبُ
واخفض جناحك للأقاربِ كلِّهم …… يتذلّلٍ واسمح لهم إنْ أذنبوا
وإذا بُليتَ بنكبةٍ فاصبرْ لها …………. من ذا رأيتَ مسلماً لا ينكبُ
وإذا أصابك في زمانك شدَّةٌ …… وأصابك الخطبُ الكريهُ الأصعبُ
فادعُ لربّك إنّه أدنى لمن ………….. يدعوه مِن حبلِ الوريدِ وأقربُ
واحذر مؤاخاة الدَّني لأنّه ……….يُعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ
واختر صديقك واصطفيه تفاخراً …… إن القرينَ إلى المقارن ينسبُ
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحباً …….. إن الكذوب لبئس خلاًّ يُصْحبُ
وذرِ الحقودُ وإنْ تقادم عهدهُ ……… فالحقدُ باقٍ في الصُّدور مغيَّبُ
واحفظْ لسانَك واحترز مِن لفظِه ……. فالمرءُ يسلم باللسانِ ويعطبُ
وزنِ الكلام إذا نطقتَ ولا تكنْ …………….. ثرثارةً في كلِّ نادٍ تخطبُ
والسرّ فاكتمه ولا تنطقْ به ………….. فهو الأسيُر لديك إذ لا ينشبُ
واحرصْ على حفظِ القلوبِ من الأذى …. فرجوعها بعد التنافر يصعبُ
إنَّ القلوبَ إذا تنافرَ ودُّها ………. شبهُ الزجاجةِ كسرُها لا يشعبُ
واحذر عدوّك إذ تراه باسماً …………… فالليثُ يبدو نابُهُ إذ يغضبُ
وإذا الصّديق رأيتَه متملِّقاً ……………… فهو العدوُّ وحقُّه يتجنبُ
لا خيرَ في ودّ امرئٍ متملّونٍ ……………. حلوُ اللّسان وقلبه يتلّهبُ
يعطيك مِن طرفِ اللسانِ حلاوةً ………..ويروغُِ منك كما يروغ الثعلبُ
يلقاك يحلفُ إنّه بك واثقٌ ………………. وإذا توارى عنك فهو العقربُ
إذا رأيت الرّزق ضاقَ ببلدةٍ …………وخشيتَ فيها أن يضيقَ المكسبُ
فارحلْ فأرضُ اللهِ واسعةُ الفَضَا …………. طولاً وعرضاً شرقها والمغربُ
كانت هذه اطلالة سريعة علي شعر الشاعر الحكيم الزاهد الفيلسوف المتأمل في ماهية الأشياء ” صالح بين عبد القدوس ” ذالكم الشاعر المخضرم الذي ادرك الدولة الاموية و العباسية ، و الذي توغل بعمق في علم الكلام و الفلسفة و الاغراض المختلفة ، التي تنطق بالحكمة و الاخلاق و القيم و الجمال ، و هذا من خلال ثقافة جديدة ازدهرت بها البيئة العراقية في ظل الخلافة العباسية و هذه القصيدة ” الزينبية ” تجمل ظلال هذا الغرض الرائع الجميل الذي حوي ثقافات أجناس انصهرت في حاضرة الخلافة الاسلامية في اطار الترجمات الوافد —
فجاء شعره فاتحة لغرض الحكمة و الزهد قصائد توشح ديوان العرب يستخدمه البلغاء و الخطباء و المصلحين في توظيفه كرسالة سامية تنطق بالقيم التي تزين وجه المجتمع بين الأصالة و الحداثة في توازن دائما