يقول الناقد الفرنسي “ميشال هاوسر” قبل النص هناك العنوان، وبعد النص يبقى العنوان) .
العنوان يعد مفتاحاً إجرائياً ومدخلاً أساسياً لأي نص، بل هو النواة الدلالية واللغوية الاولى له، لأنه يشكل لحظة تكوين الوعي لدى المتلقي، وعلى هذا الاساس شكل إشكالية أحداثوية لدى القارئ في الكشف عن البعد الدلالي والرمزي للنص، وتفكيك شفراته، فهو (إشارة مختزلة ذات بعد إشاري سيميائي… يؤسس لفضاء نصي واسع، قد يفجر ما كان هاجعاً أو ساكناً في وعي المتلقي أو لاوعيه من حمولة ثقافية أو فكرية يبدأ المتلقي معها فوراً عملية التأويل) سيمياء العنوان: بسام قطوس، ص36.
لقد كان للعنوان حضوره الواسع في الدراسات والبحوث السميائية، وهذه الدراسات لا تبحث عن دلالة العنوان فحسب بل عن طرق تشكيله، وتحليله من منظور سميائي، وهذا شائع في القراءات النقدية الحديثة، فهو عند رولان بارث (نظام دلالي سيميولوجي) وقد عرفه “ليوهوك” في كتابه ( سمة العنوان ) بأنه (مجموعة من العلاقات اللسانية التي يمكن أن ترسم على نص ما، من أجل أن تشير إلى المحتوى العام، وأيضا من أجل جذب القارئ ) عبد الفتاح الجحمري، عتبات النص (البنية والدلالة)، ص٧٠.
ومن خلال هذه الرؤية تتأكد دلالة العنوان في المجموعة الشعرية للشاعر “كمال الشاطي” (صخب الصمت)، كونه شكل (نصاً موازياً ) لا يقل أهمية عن المكونات النصية الأخرى، بل هو سلطة النص، فلغتة غرائبية بتنافرها وانزياحها مما يحفز المتلقي الى فهم ماهيته . وعليه لا يمكن لأي قارئ أن يلج عوالم النص واستنطاقه، وتفكيك بُنيته التركيبية والدلاليـة، دون امتلاك المفتاح الأولي وهو (العنوان)، الذي يرافق المتلقي كنص موازي، لان البنية الدلالية له، فتحت مجال التأويل أمام المتلقي وسمحت بتعدد القراءات له. وهذه التعددية عائدة الى الشاعر حين لجأ الى الأسلوب السيريالي الذي يقفز على الواقع في وضع العنوان .
أذن العنوان (إبداع لغوي ، يتواصل من خلاله القارئ مع النص فبالإضافة إلى تحديده لهوية النص ووصف خصائصه الشكلية والموضوعاتية، له مجموعة من الوظائف الأخرى التي يؤديها، والتي من بينها إغواء القارئ والتشويش عليه من خلال أحتمالات غير متوقعة بكسر أفق أنتظاره) جوزيف بيزا كامبروبي ، وظائف العنوان، ص٤٠.
الإشارة الأولية لعنوان المجموعة الشعرية للشاعر “كمال الشاطي” تتشكل من كلمتين (صخب الصمت) التي تشير الى ضدية وتنافر أعطته صبغة شعرية، من خلال الخروج عن السائد الشعري المتناقض مع طبيعة الاشياء، وتأويل كلمتي العنوان (صخب الصمت) أو كما يطلق عليها “جون كوهين” (المنافرة) وأقامت التناقض الدلالي بين (الصخب) و(الصمت)، وهذا الطرح يتناسب مع ما يحدث في العالم من خلل فكري وإيديولوجي عندما يكون اللامعقول هو المعقول.
العنوان (صخب الصمت) هو مجتزء من أحد نصوص المجموعة نظرا لما يتميز به من رمزية وكثافة لغوية، ذات دلالة مختزلة، ومعيار جمالي خارج عن المألوف في لغته الانزياحية، ويشير الى دلالات سيميائية كامنة في لا وعي المتأمل له، فلايمكن أن نرى ملامحه الكلية الا بقراءة النص. فـ(صخب الصمت) ينبغي التوقف عند تركيبته اللغوية والنحوية من جهة والدلالية من جهة أخرى.
فالبنية اللغوية والنحوية التي يتركب منها العنوان (الصَخِب:َ الضَجِيج النَاتِج عَنِ اخْتِلاَطِ الأَصْوَاتِ وَارْتِفَاعِهَا وَجَلَبَتِهَا)، لسان العرب، لابن منظور . جاء جملة مجتزئة وهي (شبه جملة) دالة على (الثبوت والاستمرارية) ومكونة له، فهو يبدأ باسم نكرة (صخب)، وهو مضاف أي التكثيف الدلالي يقع عليه، ويعطيه اتساع في الدلالة لان العلاقة بين العنوان والنص تتمثل في (أتساع الرؤية وضيق العبارة)، فهناك علاقة بين الدال الأول الـ(صخب)، المضاف، وبين الدال الثاني المضاف إليه (الصمت)، وهذا يدل على أن المضاف هو المجهول (النكرة)، والمضاف اليه هو المعلوم (المعرفة)، وفي هذه الحالة أكتسب المضاف (النكرة) التعريف.
أن حالة البدء بأسم نكرة ظاهرة لغوية مهيمنة على اكثر من عنوان في المجموعة الشعرية (خلف العيون/ أنت العيد/ مقاطع الحنين/ نافذة الذاكرة …). وهذه ظاهرة شائعة في لسان العرب، (لأن الاسم إذا كان سمة شيء ما فانه إلى التنكير أقرب). فالنكرة أصل والمعرفة فرع، لأن النكرة لا تحتاج إلى قرينة للدلالة عليها، أما المعرفة فتحتاج إلى قرينة، يقول سيبويه:(واعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة وهي أشد تمكناً، لأن النكرة أول ثم يدخل عليها ما تعرف به، فمن ثم أكثر الكلام ينصرف الى النكرة)، كتاب سيبويه الجزء الثالث .
الجانب الآخر في العنوان هو الانزياح وثنائية التضاد أو التنافر الذي تضمنه والتي تشير الى أن (الصخب) لايمكن أن يكون صامتا إلا في حال وجود مصدات له. وهذه الثنائية في تضادها تعطي تأويلا يتعلق بالمفردة الثانية (الصمت) ليكون لهذا الصمت صخب. وسواء كان الصخب صامتا أو الصمت صاخبا، وعلى الرغم من إحالة المضاف (الصخب) الى المضاف اليه (الصمت) فهو يخفي لدى الشاعر بوحاً داخلياً ومقدار من الالم النفسي لا يسمعه ويعرفه الا هو، فكان لـ(صخب الصمت) صرخة في سكون موحش، عبر عنه الشاعر في نصه المعنون (صخب الصمت):
مخالبُ الوحشة تنهشُ النّورْ
تُمزق جمال الزمكان
سكونُ الوحدة سرابُ التمني
يُدحرجُ الذّاكرة ..
عبرّ شريط الوجوه،
على أكفِّ القناديلِ المبتورة..
الشاعر “كمال الشاطي” يختط أسلوباً فلسفياً يتسم تارةً بالغموض وتارةً اخرى بالرمزية التي هي منجم ثري لكل شاعر، فهو يقرأ الصخب بغير لغه الاخر. أما القارئ يأخذ بلغة الدلالة التي يستنطقها بشيء من التحليل، فالصمت في الصخب يصنع هدوءاً داخلياً . والمرء بعض الأحيان يحتاج للصمت ليس للهدوء، وانما يحتاج لوقار الصمت، فهو شطحة صوفية ذات عمق وجودي وأختزال فلسفي، واستجابة لعقل وروح الإنسان .
(سيقان لاهثة)
وسط صخب القلق
تَحدَّثْ بهدوء ..
،،،،،،
(اليوغا)
لا صوتَ لي .. وسطَ الصخبِ
كيف الوصولُ إليكَ ؟
،،،،،،،
(اليوغا)
لتلتصقَ روحينا
وَتتوضّآ بماء الصمت
على دكّةِ القدر
،،،،،،،،
(كأس)
الكأسُ الممتلئةُ بالصمتِ
صوتُهَا حقيقة
في مسارح الأيام
قد يصعب على القارئ استحضار المعاني في نصوص الشاعر “كمال الشاطي”، لان ذلك يتطلب قراءة لمضامين ميثولوجية ولغوية وفلسفية، لان هذه المفاهيم التي استند إليها في مجموعته تنبع من ثلاث مصادر شكلت مرجعية معرفية له، وهذه المصادر هي النفسي والفلسفي والميثولوجي الاسطوري. فاغلب نصوص المجموعة تتسم بدلالة رمزية متشظية الأبعاد متحركة ومتنوعة، تحمل في طياتها مفاتيح تفتح به مغاليق نصوصها . فهو يستحضر رموزه المتنوعة مع وجود دالة لاتخلو من جمالية ورؤية .
(عشبة الخلُود)
(مجنون ديستوفسكي)
(مسخّ كافكا)
(عمى يعقُوب)
(صخرة سيزيف)
(قوانين مندل وأينشتاينْ)
(وتر قوس أوديسيوس)
كذلك النص يمثل معادل موضوعي للشاعر “كمال الشاطي”نفسه، محملا بصخب الحديث الداخلي للنفس، لأن الصورة الشعرية فيه تتمثل في البؤرة الدلالية الأكثر صخباً والتي تتجسد في الموقف من الواقع المزري الذي يعيشه .
(ومضات)
تجري الآن ..
في مَسارحِ الأرضِ ..
فوبيا القتلِ وَ التدميرِ
على مرأى وَ مسمعِ السماءِ
في ذاكرتي عصافيرٌ
طارَتْ بلا أجنحة
الجسدُ أوراقٌ محترقةٌ
وَالروحُ مصباحٌ …
في كل زمانٍ
صعاليكٌ محترفونَ
يتمردونَ على القوالبِ
وَلا ينتظرون غودو
،،،،،،
الموتُ هو الحقيقةُ المُطلقةُ
في هذه الحياةِ
العراق الآن مثلثٌ فيه :
مربع الحروب
يساوي مربع الفتنة
زائد مربع الجهل
،،،،،،
رغم أنفِ الطغاةِ
لي دمٌ أحرقتهُ الحروبُ
وَروحٌ يعتصرها الوجعُ
لكنني .. على العهدِ
ما زلتُ أنثرُ الورودَ
على الدروبِ
،،،،،
(أين أنت)
هولاكو على الأبوابِ
حسامُهُ يقطّع هشاشةَ الأعناقِ
وأمتي أرملة ..
تستجدي متاهتها
مذعنة للطغاة
نيرون قادم بحرائقه
فرانكنشتاين وَطِنَ بغداد
قصعته الانفجاراتُ
ومساربُ التفرقة
إيه أيها التّأريخ
كم أنت غشاش ؟
،،،،،،،،
سكارى نحن ..
نترنح في الحاضرِ
نصنع الموتَ ونزيّنُ التّوابيتَ
بألوان الرّايات
الكلّ يدهسنا بأقدامه
وفراعيننا آلهة ..
أين أنتَ يا محمد ؟