ما أن وطأتْ اقدامي قاعة المحاضرات، حتى ركبني عفريت الخجل الذي أعرفه، تَحسستُ جبيني أمسح بيدي عرقاً وهمياً، بالكاد رفعتُ رأسي، آه، ثمة مقاعد فارغة في آخر القاعة، رحت أختلس النظر، كانت القاعة تعجُّ بأصناف الطلاب والطالبات، بعضهم بدا خجولاً مثلي، النظرات هي هي تصافح البلاط شبه اللامع، أما البعض الآخر فكانت ضحكاتهم تكادُ تخترق أذني، اخذ غير واحد من هؤلاء الجريئين يتفحصني بعينيه دون أن يرمش وكأني مخلوق قدم تواً من الفضاء الخارجي ، نَكّستُ رأسي، لكن قبل أن أفعل ذلك حانتْ مني نظرة صوب مقاعد الطالبات اللاتي راح أغلبهن يتهامسن ويكركرن بصوتٍ خافت. أغلق أستاذنا الباب ثم تقدّم للأمام خطوتين، يا إلهي، كم بدا فاتناً بملامح وجهه الرومانية، قال بصوتٍ أخّاذ :
_مرحبا بكم جميعاً. قال هذا ثم أتبعها بأشارة من يده التي زيّنَ معصمها ساعة ذهبية خطف بريقها الأبصار، تصاعدتْ بهض الهمهمات ترحيباً بالأستاذ الثلاثيني ذو البدلة الرصاصية، أسند حقيبته الجلدية اللامعة إلى ركبته ثم أخرجَ بضعة أوراق منها، مشى خطوتين نحو لوح الكتابة ، تنهّدَ قبل أن يكتب بخط ثابت وجميل كلمة واحدة هي تعارف! تَصاعدتْ الهمسات من بعض الطلبة في الأمام، صحبها ضحكة خفيفة أو ضحكتين، استدار الأستاذ بشكل فاتن وضيّقَ مابين حاجبيه قبل أن يبتسم ويلوّح بالأوراق بين اصابعه، قال :
_سنكتفي بمحاضرتنا الأولى هذه بالتعرف فيما بيننا ، هذه طريقتي، لكسر الجمود والتوتّر فحسب. قال هذا ثم خطا نحو المكتب الصغير، وضع حقيبته ثم أخذ يقلّبُ بالأوراق بين يديه :
_سأنادي بالأسماء، لكن ليس ضرورياً الوقوف، رفع اليد سيغني عن كل هذا، طيب على بركة الله. راح الأستاذ ينادي على الحضور، كان يفعل ذلك بصورة بطيئة لاتكاد تخلو من الفكاهة، أخذ أغلب الطلبة الذكور يشاركون الأستاذ مرحه وهو ينطق بالأسماء مضيفاً لها نعوتاً والقاباً من عنده، كنت اتابع بشغف مايجري، لكن انتباهي كان مشدوداً أكثر للهمسات الرقيقة وكلمة نعم التي كانت تتصاعد من أفواه البنات، راقتني فعلاً طريقة الأستاذ في شد انتباه الآخرين، سمعته ينادي على أسمي، رغد..، يارب العباد، هل هذا فعلاً أسمي؟
_رغد، هل هي غائبة؟. رحت أنظر حولي، خيّل لي أن كل العيون انصبّتْ نظراتها في وجهي المُحمّرْ ، تَلمستُ جبيني، كان بارداً، لا أعرف كيف واتتني الجرأة، رفعتُ يدي المرتعشة وأنا أحاول النظر الى ماخلف الأستاذ،قال :
_نعم، تفضل عزيزي. أختنقتْ الحروف في سقف حلقي، أزدردتُ ريقي ثم أطلقتُ كلماتي بصوتٍ خافت :
_استاذ أنه أنا، لكن ليس رغد، بل رعد. أنحنتْ الأوراق بين أصابع الأستاذ، بالكاد تمالكَ نفسه، لكنه أخفى فمه بيده الأخرى واتجه صوب مقعدي، تصاعدَ من الأمام بعض الهمس المختلط، نقر الأستاذ على النقطة في أسمي وهو يقول همساً :
_انا آسف جداً، لا عليك، سأغيرها حالاً. رحتُ أحدّق في ظهره بعيون زائغة وهو يكمل قراءة بقية الأسماء، أحسستُ بأن ثمة من كان ينظر صوبي، خَفضتُ بصري، عندما رفعته بعد دقائق، كانت القاعة شبه فارغة، لقد حلّتْ فترة الأستراحة. في المحاضرة التالية تَنفستُ الصعداء فعلاً، فهذه المرة أستلمتْ دفة المحاضرة أستاذة وخطَ الشيب شعرها الولاّدي القصير، راقني أنه لم يكن لديها حقيبة ولا أوراق، اكتفتْ بألقاء المحاضرة ثم أخذتْ تحاول التعرف إلينا، بطريقة من أنتَ ومن أنتِ؟ . قبل فترة الظهيرة حدث نوع من التآلف بيننا نحن الطلبة، أخذنا نتقرب من بعضنا بخجل، لكن اغلبنا كان يحاول قدر الإمكان جذب انتباه الطالبات، الجميلات منهن على الخصوص ! وطبعاً لم أكن أختلف عنهم بشيء، حاولتُ بدوري النظر نحو واحدة او اثنتين ،لكن الأمر لم ينجح معي، فقد كنت خجولاً لدرجة اللعنة، كان وجهي يحمرُّ مثل حبة البندورة كلما اصطدم نظري بعيني واحدة منهن. في اليوم التالي زالَ الخجل أو كاد، أخذنا نستكشف بعضنا أكثر، أصبحتْ عبارة من مثل صباح الخير تنطلق من شفاهنا بسهولة، لكن قلة فقط منا من حاول التعرف إلى بعض الطالبات، كان لهم تجارب مشهودة خارج رواق الجامعة، هم اخبرونا بذلك فيما بعد، كادتْ المحاضرة الأولى أن تنتهي حين قطعها الأستاذ ذو الكرش المتدلي، لم أكن منتبهاً في أول الأمر، كنت مشغولاً بل سارحاً في تأمل الطالبة ذات الشعر الأحمر والتي جذبتْ أنتباهي منذ اليوم الأول، وجدتها تستدير وتبادلني النظر بحدة، حين انتبهتُ على نفسي وجدت أسمي يتردد بين شفتي الأستاذ :
_هل رغد غائبة؟. اتسعتْ عيناي دهشة واحمرَّ وجهي من الغضب هذه المرة، وجدت نفسي أرفع يدي حتى كادتْ تلامس سقف القاعة، قلت قبل أن أنهض محتجاً :
_أستاذ، رجاءً، أسمي رعد وليس رغد،وأنا ذكر ولست أنثى وهذه النقطة وصمة عار في جبيني!. قلت عبارتي الأخيرة بطريقة فكاهية لكنها حملتْ معنى الحدة والغضب،قال الأستاذ وهو يكركر مع بعض البنات التافهات :
_طيب لاتغضب، أنا افهم شعوركْ، الأمر سهلٌ للغاية، بوسعك إزالة النقطة ببساطة، فقط عليكَ الذهاب بفترة الأستراحة لموظفة الأدارة، تعرف نحن نأخذ قوائم الأسماء من هناك. قال هذا ثم غمزني بعينه قبل أن يواصل المناداة على بقية الأسماء. رافقني أحد زملائي في فترة الأستراحة، تحاشيت النظر صوب البنات الملتفّات حول بعضهن، لكني لم أستطع منع نفسي من التحديق بذات الشعر الأحمر التي خيّل إلي أنها ابتسمتْ بسخرية وكأنها تقول :
_ها رغد، سلامات!. لم أتبادل مع زميلي الجديد، ولو حرفاً واحداً طيلة الطريق صوب الأدارة ، كنت أغلي في أعماقي، حتى انني لم أطرق الباب، كان ثمة ثلاث موظفات بدَونَ في كامل اناقتهن وفتنتهن، ابتسمتْ واحدة في وجهي بعد أن وجدتني أدير عينيَّ فيهن بالتناوب، قالت :
_تفضل عيني، أمر خدمة؟. وجدتُ صاحبي يسبقني ويقف أمامها، قال بصوت فاجأني :
_ثمة سوء تفاهم، زميلي هذا – أشار نحوي بسبابته – أسمه رعد، لكن في القوائم لديكم أصبح أسمه رغد!. حاولتْ البنت أن تبتسم في وجهي، لكني صَوبتُ لها نظرة باردة جعلتْ ابتسامتها تموت في مهدها، قالت :
_حالاً، سنصلح الوضع، سنفعل ذلك في كل القوائم. قالت هذا ثم جذبتْ أحد الادراج واخرجتْ رزمة كبيرة من الأوراق، لم يستغرق الأمر سوى دقائق، أبتسمتْ الموظفة وهي تلوّح بالأوراق :
_أختفتْ النقطة، تم إزالتها عن بكرة أبيها، تقبّل اعتذارنا الكبير. قالت هذا ثم أعادتْ الأوراق الى درج المكتب. تنفستُ الصعداء أخيراً، كان زميلي قد سبقني بخطوات، قبل أن ندخل قاعة المحاضرات التفتَ صوبي وقال :
_هل رأيت؟ كان الأمر أبسط مما تصورت. أغلق الأستاذ النحيف الباب خلفه، استدار صوبنا مُرحّباً بأحناءة خفيفة من شعره الحليق، ماجذبَ انتباهنا في هذا الأستاذ الجديد أنه كان طويلاً أشبه بعمود نور متحرك، مشى بين المقاعد، أخذ بعض الطلبة يتهامسون فيما بينهم وقد عَلتْ الدهشة ملامحهم، ارتدَّ في خطواته الواسعة السريعة، فتحَ حقيبته وقال :
_لنترك المحاضرة جانباً الآن، مارأيكم بأن نتعرف على بعضنا؟ . أخذ يلوّح بقائمة الأسماء بين اصابعه، كان سريعاً في القراءة، بالكاد ينظر صوبنا، كرّرَ أسمي، ياللدهشة اللعينة، رغد وكأني الوحيد في القاعة! لم أرفع يدي بل حدّقتُ في زميلي الذي علتْ ملامحه دهشة تماثل دهشتي، شعرَ بالحرج الذي أصابني، لمحته يتهيأ للوقوف لكني سبقته وكان غضبي يسير أمامي حين تَركتُ مقعدي، قلت:
_لحظة أستاذ، رغد ليستْ غائبة. قَطبَ عمود النور حاجبيه، يبدو أن عدوى الدهشة انتقلتْ اليه والى الطلاب الذين تصاعدَ همسهم، قال :
_مكانك، أين تظنُّ نفسكَ ذاهباً؟ . قلتُ وأنا أضع يدي على أكرة الباب دون أن التفت :
_لاشيء أستاذ، ستفهم من الآخرين، أما أنا فسأجلب رغد هذه، حية أو ميتة