أبو عبد الرحمن في لقائه الأخير مع صديقه أبي حسين
قال: أريد شحن الجوال كيف؟
أبو حسين: اليوم الكهرباء لم تأت بعد، أنتظر حتى تأتي الكهرباء وتشحن الجوال .
أبو عبد الرحمن:و لمَ إذا هذا التقنين اللعين .. الصراحة لا أفهم له معنى سوى زيادة قهرنا .
أبو عبد الرحمن: هل بقي عندك الشاحن ليلة أمس؟ أظن أني قد نسيته عندك ؟
أبو حسين: نعم أظن هو مازال في قابس الكهرباء معلق في مكانه كما وضعته أنت ,, انظر إليه وأشار له بيده باتجاه قابس الكهرباء.
ضحك أبو عبد الرحمن، ثم قال بعد أن تنهد: يبدو أني خرفت. قد أنسى نفسي يومًا ما في مكان ولا أعرف كيف أعود إلى بيتي . هل تظن ان هذا يحدث معي؟
قال أبو حسين: نعم معك أنت كل شيء ممكن ,
أبو عبد الرحمن: ارجوك اشحن لي هذه البطارية اليوم، أريدها أن تمتليء, إنها البطارية الثانية، سوف أخبر أولادي أنه عليهم جمع مبلغ من اجل شراء مولدة , ولكنهم غير موجودين ؟
زرف بعض الدمعات على فراق الأبناء، وضع يده على ذقنه وهو يمسد لحيته التي طالت، اصبح إطلاق اللحى سمة الجميع ليس تدينًا أبدًا إنما توفيرًا للمال، فليس الجميع معهم المال لزيارة الحلاق كل أسبوع, نهض من مكانه مودعًا صديقه أبي حسين
عائدا إلى المنزل كما هو الحال كل يوم.
جلس في داره وحيدا يفكر، قال دون أن يدري ما يقول” كم علي أن أنتظر هنا يا رب هل أموت وحيدًا ؟”
قالها وفي النفس حرقة و مرارة وألم شديد وحرقة الفراق كانت اشد ألمًا.. زفر من صدره اآخر زفرة نفس كاد يظنها آخر أنفاسه التي يطلقها من صدره .. وقال اليوم قبل الرحيل؟
الجميع غادر.. سافر.. هاجر، ترك خلفه كل شيء. لماذا الجميع فر وترك المكان فارغا، الجميع ولى مدبرًا إلى أماكن بعيدة جدا عن هذه المدينة اللعينة التي سكنها الشيطان ودخل في كل بيت فيها وشتت أهله وفرق الأحبة عن بعضها، قال وفي النفس حسرة تزيد حسرة.. الجميع ظن أنه نجا بنفسه من الموت إلا أنا بقيت هنا أعيش وحيدا أعيش الألم مرتين أعيش ألم الفراق وألم الخوف أعيش بين المطرقة والسندان .. أعيش على ذكراهم الباقية .. هناك رنين صدى في كل ركن من هذا البيت، أو حي اأو شارع أو مكان .. أعيش مع فراغ ثلاثين سنة من الصخب والضجيج وصراخ الاطفال ولعبهم وتنطيطهم هنا وهناك فجأة واحدة اختفى كل شيء،
اكتشف أبو عبد الرحمن .. أن الحياة كلها اختفت مرة واحدة كل شيء انتهى ..أين ذهب هذا الضجيج لم يعد الجيران يتذمرون من حركات الاقدام الكثيرة والمتكررة في أرض البيت لم يشكي احد من الضوضاء التي يحدثونها الاطفال في البيت من اللعب والجري المتكرر في المنزل
فلم يبقَ من هؤلاء القوم إلا أحذيتهم وملابسهم المعلقة على باب المنزل تنتظرهم بقيت تنتظرهم ؟
الساعة الآن كم ؟ لا أعرف التاريخ الآن، لا أعرف المكان الآن، لا أعرف أين أنا لا أعرف يا الله لا أريد المعرفة يا الله، ارجعني الى ما قبل الوعي لا أريد تذكر شيء مما حصل ..
أصعد كل يوم درجات السلم إلى البناء الفارغ لا أسمع إلا أصوات أقدامي وأزيز رصاص من هنا أو هناك لا أعرف المصدر من أين لكن أصبحت خبيرًا في تلك الأصوات. نعم أستطيع تميز الأصوات وأعرف أنواع القذائف وأصوات الانفجارات أين وقعت أعرف من شدتها أو من خبوها هنا أو هناك تعلمت من الوحدة الانصات الى الأصوات ؟
أرى الأشياء وهي تتحرك في المنزل من قوة الارتجاجات تقع على الارض ، لا أرغب في إعادتها إلى مكانها بعض الصمديات والتحف الصغيرة تكسرت.
أسمع صراخ زوجتي وهي تحدثني على الجوال وتقول بصوتها العالي لي انتبه على الأشياء إنها غالية الثمن جدا قد دفعنا بها دم القلوب هذه القطعة اشتريتها أنا وأنت من لبنان حين كنا في زيارة لبيروت، أتذكر هناك بائع الزجاج قبل الحدود السورية كم تجادلنا معه حتى خفض لنا من السعر، أتذكر كم رجونا رجال الحدود حتى نمضي دون أن ندفع المزيد من المال ونحن نرجوهم أنها من أجل تجهيز البنات ..
وهذه إنها من ذكرى زواج ابنتنا عفاف وزوجها عاصم
أما تلك العلبة الثمينة.. العلبة الذهبية، إنها هدية أمي انتقلت اليها من أمها التي كانت تضع الأشياء الثمينة بها، إنها ثمينة جدا وهذا الفانوس وذاك القنديل إنه من أبيك رحمه الله، اتذكر حين اأهداك هذين القنديلان.. وقال لك هذان كانا في بيتنا قبل وصول الكهرباء لسوريا والصحون والفناجين واللوحة التي على الجدار أتذكر أنها من رسم عبد الرحمن ولدنا
حين رسمنا جميعا عندما كان طفلا وأقسمت أن تجعل له هذا الرسم تذكار معلق الى هذه الساعة.. أتذكر حين اشتريت له علب الألوان ووعدته أن تجعل اللوحة في إطار جميل وتعلقها على الجدار أن رسمها بشكل جميل وأنيق، نعم إنه رسمها كما طلبت منه رسمها بكل حواسه ..ووضع فيها روحه ورسم معها المدرسة والحافلة وبقية الطلاب في الصف والمعلمة و حتى الموقد رسمه ..
ا ترى تلك الارجوحة المعلقة وهذا الرجل في اللوحة صاحب البطن الكبير حين سألته من هذا قال لك انه انت
وضحكنا جدا يومها اتذكر هذه الفتاة التي تلعب على الحبل الطويل اتذكر لما سألته لما الحبل طويل جدا وشعرها منكوش هكذا انه كيف اجابك بلا تردد ,,ان شعرها يطير بالهواء لأنها ترتفع وتعلوا مع الهواء وتقفز مع الحبل
انه ولدنا عبد الرحمن الرسام الصغير
وهذا عود ايمن المركون مذ رحل عنا انه يعشق العزف على العود.. اتذكر حين ذهبنا انا وانت الى محل بائع الاعواد الموسيقية في سوق المدينة واشترينا له العود..
كم كانت فرحته حين احتضن العود الى صدره .
كان قد اخرج كل ما جمع من مكمورته وما جمع من عيادي كان أدخر كل قرش .. اذكر ان الرقم فاق المائتين ليرة وعشر ليرات ورقيه والبقية فراطة معدنية .
كان يد خرهم في علبة معدنية يخبأها دوما تحت سريره
وتذكر يومها انك اكملت له ثمن العود كان ثمن العود على ما اذكر الف وسبع مائة ليرة نعم انه غال جدا ولكنه عود مميز حين حمله في الطريق وسار بين الناس وهو يحمله وكاد يطير فرحا حتى انه كاد ان يتعثر به..
وحين دخلنا من المبنى وشاهد جارنا أبو ابراهيم العود مع عبد الرحمن ماذا قال لنا وضحك جدا
كمل النايل بالزعرور وهي زاد في الطنبور نغم
وكيف ضحكنا جميعنا .
يعني الا يكفي صراخ وضجيج ودبك .. وهذا العود اليوم متى تشترون الطبل ان شاء الله
وضحكنا على درج البناء حتى انك وعدت جارنا اذا نجح محمود في الاعدادي سوف تشتري طبلا وتقرعه وتحضر فرقة عراضة شامية وتحتفل بنجاحه اتذكر وعدك؟
وكيف سخر جارنا من هزلك هذا في ذاك اليوم
وكان يتهكم عليك حتى صعدنا الدرج وجارتنا فتحت الباب لترى العود أيضًا وتقول لنا بسخريتها المعهودة ..كان ناقصنا والله ودخيلك مين يلي رح يغني فيكم ان شاء الله.
يعني بفهم اعتبارا من اليوم رح يشتغل القرع والدبك شو رأيك جارنا نعزل من البناء وتبقى انت والفرقة تبعك وحدك في البناء .. وانت أخبرتها بعد ان هدئت من خاطرها ان العزف سيكون على سطح البناء فقط وفي أيام مخصصة
وهذه قصص ليلى نعم انها ليلى العشوائية انها مبعثرة هنا وهناك دوما تضع القصص في كل مكان في البيت حتى في المطبخ تترك رواية كانت تقرأ بها وتنظف المطبخ حين اناديها وهي تقول اني انظف المواعين وهي تكون جالسة غارقة في رواية غادة السمان.
اعلم انك لا تحب هذا الاسلوب ولكن كنت دوما تقول انها فيلسوفة زمانها سوف تكون روائية كبيرة في المستقبل
وهذه اشياء عزيزة مكدسة هناك انها تدرس في كلية الفنون ما تلك الاشياء هناك وجوه ورسومات ولوحات عبد الرحمن كان يغار جدا من كثرة اللوحات المركونة بجانب الجدران ويريد له مكان على الجدار
كان الصراخ كل يوم يعم المنزل والشكاوي من الجميع
أتذكر فنجان القهوة حيث كنت تفضل أن تشربه على سلم البناء هربا من ضجيج الاولاد
ويجالسك جارنا أبو عاصم الذي صاهرنا واصبح نديمك اينما كنت تكون يكون هو معك .
اقول لك لملم الاشياء المبعثرة في المنزل انها تمتلئ غبار لما لا تقوم بتنظيف المكان من حولك ما بك انها تنطق بالحياة انها اغلى ما بقي لنا .
هل ما زال كرسيك الهزاز في مكانه وصحون السجائر من حولك ممتلئة بالأعقاب هنا وهناك هل ما زلت تترك الصحون في كل مكان كعادتك ؟
كان يسمعها على الجوال وهي تحدثه عن كل شيء وتذكره بكل شيء الى الان ما زال يجهل اين تضع الاشياء مازال يخبرها ويسالها اين تضعين البهارات
كان اآخر اتصال بيننهم ليلة الامس كانت تتحدث اليه في الساعة الخامسة صباحا.
وكانت كحاته وسعاله تخرج من صدره تصدر خريرا من كثرة مجه السجائر ..
قالت تلك السجائر التي تشربها لقد ارتفع شربك للدخان جدا في الفترة الاخيرة ما بك الا تهتم الى صحتك ..وهو يستمع اليها وهي تزمجر غاضبة منه الم يوصيك الطبيب بترك السجائر
حبيبي اليوم أتاني خبر جميل جدا جميعنا كنا ننتظره انا وانت واخيرا يا حبيبي
سوف يعاد لم شملنا من جديد وتروي لي عن الأيام التي كنت فيها وحدك كيف مضت السنين
زوجي الحبيب اليوم اتاني رسالة عبر البريد الإلكتروني تخبرني ان الموافقة اتت اخيرا بعد صبر ست سنوات وافقت ادارة الولاية هنا على لم الشمل لنا ؟
أخيرًأ يا زوجي سنجتمع ونستعيد بعضا من ذكرياتنا سوف تخبرني كيف أمضيت الأيام بدوني وحيدا وكيف صبرت على هذا البعد الم تشتاق الي ايها الحبيب انسيت غادتك التي كنت تتغزل بها دوما..
زوجي الحبيب إن الحرب التي أخرجتنا من دارنا وديارنا رغما عنا هي حرب مجنونة ظالمة, حرب عبثية من افتعل هذه الحرب لا يعرف ما حل بنا ؟
إن لهذه الحرب أن تنتهي . إن لهذه الحرب أن تتوقف .ويخلق مكانها أرض الحب.. و إن لهذه القذائف ان تتوقف الموت لم يفرق بين احد . نعم ، إن للناس أن تعود.. الناس اكتوت بنار الحرب لابد ان تعود الى حياتها سوف نعود ونجتمع من جديد زوجي الحبيب..
أتعلم أن عزيزة في استنبول تعيش خوفا من الترحيل
وعبد الرحمن في السويد يعيش في كامب مع الغرباء لا يعرف من كل البلدان هناك بشر مهاجرين .. لا نعلم مع من المهاجرين الان هو..
وايمن خرج ولم يعد اختفى في ظروف غامضة ولم تأتي اخبار عنه الى هذه اللحظة؟
حبيبي
غدا عليك السفر إلى بيروت.. لمراجعة السفارة هناك قد تم حجز موعدا لك هناك والاوراق وصلت الى السفارة اترك المنزل في عهدة من بقي من الجيران ولا تهتم لما بقي من الاغراض الناس هم طيبون جدا سيحافظون على بيتنا لا تخشى شيء بعد اليوم..
الجيران اهلنا تحملوا منا الكثير نعم قد تحملوا منا الكثير وهم يحبوننا برغم كل شيء ونحن أيضًا نحبهم اتذكر كيف كنت تعزم الجيران في جميع المناسبات على سطح البناء وتقيم لهم الولائم والعزائم والسهرات انهم يحبوننا زوجي الحبيب اني انتظرك بفارغ الصبر ليلتئم شملنا من جديد,,
اريد ان اختفي بين يديك واحتضنك كم اشتقت اليك هنا كل شيء بارد كل شيء جامد فلا اجد عاطفة ولا اجد لذة في الطعام ولا في الشراب ولا حتى في المنام
الكوابيس دوما كل يوم هنا تقتلني اعاني من الرهاب اسمع صراخ وعواء ذئاب الطبيب النفسي هنا يقول لي انها كوابيس واحلام ستزول مع زوال اسباب الحرب,,
كان أبو عبد الرحمن يقرأ الرسالة التي وردته عبر واتس اب ولكن لم يكمل قراءة بقية الرسالة الى اخرها لان النفس الاخير قد صعد الى السماء ؟
وقع الرجل على ارض المنزل الفارغ من كل شيء حتى من الصدى الذي يرتد على الجيران لم يسمع احد في البناء هذه السقطة المدوية هذه المرة، صوت الوقوع كان خفيفا لم ينتبه للصوت احد سقط و لفظ النفس الأخير وبقي مستلقيا على الارض لمدة ثلاثة أيام بلا حراك..
حتى تذكر صديقه أن أبو عبد الرحمن لم يخرج من المنزل له ثلاثة أيام كان يعرفه و يجالسه دوما..
أيضًا الرجل كان ينتظر لم شمله مع اسرته في أوربا
تذكر هذا الصديق أبو عبد الرحمن
صعد يطرق الباب لم يرد أحد فليس من مجيب له
ولكن الباب غير موصد بإحكام فتح الباب وكان المشهد رهيبا رجلا مستلقيا على الارض وبيده الجوال
وكانت رسالة لم شمل ما زالت مفتوحة….
لم يبق اأحد من أسرة هذا الرجل حتى يشيعه إلى مثواه الأخير حتى اضطر الرجل أن يبلغ السلطات التي أتت بدورها تحمل جثة الرجل معها إلى مكان مجهول وتدفنه مع الغرباء؟
تم الدفن بلا تاريخ بلا زمن بلا عنوان وبلا مشيعين
تمت تلاوة الرسالة ؟