قصة

حكاية يد

رعد الإمارة

هَمستْ اليد اليسرى لنفسها، وهي تَنتصبُ بكبرياء بعد أن كانتْ منقبضة :
-أرعن، أنه يستحق ذلك، لقد سبّبَ لي ولشقيقتي المسكينة الأذى. أخذتْ تعود بذاكرتها للوراء، لقد بدأ الأمر معه منذ الطفولة. كان الشتاء قد حلَّ باكراً هذه المرّة،وكالعادة مع حلول كل شتاء، فقد أتّقدَ الموقد بلهيب وهاّج مصدره تلك الجمرات، التي راحتْ تلمع وهي تطلق الشرر مابين حين وآخر .كان الدفء اللذيذ قد تسرّبَ وشاعَ في جو غرفة الأستقبال مما أتاح للطفل حرية الحركة بعيداً عن قيود الأغطية والملاحف، أخذ يلهو في البداية مع الوسائد التي راح يقذف بها أباه تارة وأمه تارة أخرى، بادلاه اللهو بمحبة في أول الأمر، لكن سرعان ماخبتْ جذوة متعتهما، فقد تسلّل النعاس رافقه خدرٌ لذيذ فقضى على آخر مقاومة ابداها جفنيهما شبه المغلقين، باءتْ محاولة الطفل للفت انتباههما بالفشل، في هذه الأثناء حوّلَ نظره، كان ثمة شيء آخر قد جذبَ أنتباهه بشدة، أنه صوت الشَررْ المنبعث عن الجمر الأحمر البرّاق. تحرّكَ الطفل وراح ينظر بغرابة، كان السكون مطبقاً تماماً ،وسائداً في جو الغرفة، فجأة تعالى صوت صراخ عالٍ شقَّ هدوء المكان، اتسعتْ عينا الأم المذعورة وهي ترى الجمرة الحمراء تَلمعُ في كف الطفل قبل أن يلقي بها أرضاً، هٌرولتْ إليه يتبعها الأب بخطواتٍ متعثرة، كانتْ راحة الكف اليمنى وبعض الأصابع الطرّية قد احمرّتْ وتمزقَ لحمها!فيما أخذ الطفل يتلوّى مثل الأفعى. حَدقتُ مرعوبة لشقيقتي التي تورّمَ لحمها البض ،كانت منبسطة تماماً حين تم وضع بعض من مكعبات الثلج عليها، أغمضتُ عيني وأنا أشهدُ انقباضها ثم انفراجها ببطىء، المسكينة كانتْ تعاني بشدة، حملت الأم الطفل وراحتْ تدور به في الغرفة وهي تحاول عبثاً اسكاته، همست لنفسي:

_أحمق، يستحق ماجرى له، لكن لا، فشقيقتي هي من كان الضحيّة، يالغبائي الكبير. مَضتْ أيام عدة قبل أن يخفَّ الورم ، ظلّتْ شقيقتي في اثنائها تكابدُ الوجع، حتى أنها بكت قيحاً بالنهاية، كنت أمدُّ السبّابة بحذر، في محاولة خرقاء مني لمداعبة مركز الألم، بالنهاية فالفضل كان يعود لتلك المراهم الصديقة التي هبّتْ لنجدة شقيقتي وعجّلتْ في شفائها. انقضتْ أيام الشتاء بسلام أخيراً، لم يحدث خلالها شيئاً يذكر، اللهم إلا مزيداً من البرد الذي كان ينخر الأجساد، كنا طوال هذه الأيام نقضي الوقت ونحن شبه متلاصقتين، وأحيانا كنا نحتضن بعضنا ونغفو ونحن متشابكتين. كنت دوماً قريبة من شقيقتي، وكان العبء الأكبر من المسؤوليات والجهد يقع عليها،لكني كنت اساعدها في أغلب الأحيان، لقد تعاونا وتكاتفنا بقوة،وقد حاولنا قدر الأمكان أن نكون حذرتين، كان عقل الطفل السخيف ينمو بسرعة، تباً له، فمع نموه المتسارع هذا ، إلا أنه ظلَّ غبياً رغم شطحات الذكاء المتباينة. انقضتْ بعد ذلك فترة طويلة ، ومرّتْ سنين عديدة، والطفل ذو الشعر الأسود الغزير أصبح صبياً كبيراً ، مازلنا في نفس الدار، لم يتغير شيء، فقط أصبح للصبي المراهق غرفة خاصة به، كان كثير الحركة، يقضي أغلب نهاره في الرقص والدوران، وكنا نشاركه الرقص المجنون هذا بالطبع، لم نكن وحدنا من نفعل هذا، فالسيقان أيضاً كانتْ تفعل ذلك. بمرور الوقت بدأتْ مراهقته تطفو على السطح، كان ثمة طبعٌ غريب قد بدأ يسيطر عليه، لم تكن هواية بقدر ماكان تصرفاً اخرقاً، لقد أصبح فجأة مهتماً اهتماماً خاصاً بصدور الفتيات! نعم، كان يلذ له العبث في هذا المكان الحسّاس!.كان قد خرج لتوّه من المدرسة،وفي منطقة انتظار الباص كان يقف لوحده بعد أن غادر صديقاه،راح يَتلفتُ يمنة ويسرة، وكأنه كان يبحث عن شيئاً مفقود ، تحرّكَ من مكانه بعد أن دسَّ بي في جيبه، فيما ترك أصابع شقيقتي حرة وطليقة، كان ثمة بنت شقراء بصدرٍ بارز، تقف غير بعيدة من الجمع الواقف،أخذ يحوم حولها، ثم راح يحدّقُ في صدرها بجرأة متناهية، رمقته البنت بنظرة استفهام، لم تبتسم، فقط هزّتْ كتفيها، ثم اشاحتْ بنظرها بعيداً، أزداد اقتراباً منها، حتى كاد أن يلتصق بها، كان الطقس بارداً،حاولَ أن يلفت انتباهها، وفكّرَ بأن يبدأها الحديث حول الطقس، لكنه قبل أن يفعل، وصل الباص! هرع الواقفون بسرعة، سبقته الفتاة بالصعود، وجد نفسه وحيداً في منطقة الباص، هرع مسرعاً قبل انطلاق الأخير، أخذ يتلفت وهو يسير ، لمحها ،كانت تجلس بجوار امرأة مسنّة، نظر للأمام ،كان ثمة مقاعد فارغة في نهاية الباص، لكنه فضّلَ الوقوف قريباً منها، بل فوق رأسها تماماً!.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى