دراسات و مقالات

تأمُّلات نقدية في قصيدة(حبَّاتُ مطر) للشاعرة الأديبة سعدية بلكارح- المغرب

عبد المجيد أحمد المحمود

حين تغزو الكلماتُ قلوبَنا و أوصالَنا فإننا لا نستطيعُ الانفكاكَ أو الانعتاقَ من سلطة قراءتِها و إعادةِ اجترارِها كلما سنحت لنا فسحةٌ من الزمن…
نعم…الكلماتُ تغزونا كما تفعل كلُّ الأشياءِ القويةِ و الجميلةِ و ربما حتى القاسية…
لكنها هي وحدَها من يجلبُ لنا الفرح…تعطينا عطرًا و ظلًّا و ربيعًا و أجنحةً نحلِّقُ بها في سماءاتِ الضياءِ الناعم.
و لا كلامَ يسحرُنا و يأسرُنا و يملكُ علينا قلوبَنا كما يفعلُ الشعر.
قد نختلفُ كثيرًا حول تصنيفاتِ الشعر فالبعضُ يقولُ: الكلامُ شعرٌ و نثر، فلا مجالَ لاختلاطِهما و تمازجِهما، فيما يرى الكثيرون ممن يؤيدون انفتاح براح الكلام و التمرد على كل القواعد الكاسرة لأذواق البشر أنَّ الشعرَ يختلف عن النثر العادي مع كونه يمكن أن يكون نثرًا بامتياز، لذلك نراهم يصنفون الشعر إلى: الشعر الكلاسيكي(العامودي) و الشعر الحر و الشعر النثري… و رغم اعتراض الكثيرين إلا أنَّنا لا يمكن أن ننكر وجود بل و روعة تلك القصائد النثرية التي بدأت تفيض على بياضِ الورق.
و إذا كنا سننظر للشعر كمفهوم عالمي و ليس من خلال المنظور العربي فحسب فإننا نجد أن الشعر أصلا بدأ نثرا، و كتبت الكثير من الملاحم الشعرية العالمية الخالدة كنثر، لذلك علينا برأيي أن نقفز فوق فكرة الشعر الذي لا يكون شعرا إلا بانتمائه لبحور الخليل و تفعيلاته، و إذا ما نظرنا إلى كلمة الشعر من مصدر الشعور، فإننا نفهم أن الشعر هو ذاك الكلام الذي يهزنا كسيل جارف يفيض في بيداء نفوسنا العطشى ليخلق عاطفةً لا ندري لها بؤرةً أو منشأً، و لا نستطيعُ أن نحدِّدَ لها شكلًا أو لونًا، و هو ليس كأيِّ كلامٍّ نثريٍّ آخر كالرواية أو الخاطرة أو فنون القصة المختلفة، بل هو شكل يسرح بنا في ربوع الحرف من غير أن يطالبَنا بالوصول إلى حكمةٍ أو عبرةٍ، و لا يجبرُنا على اتخاذ موقفٍ أو بناءِ رأيٍ، هو فقط يسلكُ المتعةَ في جيوبِ أرواحِنا، ثم يهربُ كنسمةٍ عبَرت على غفلةٍ من نافذتنا المواربة.
نحنُ إذًا لا نستطيع أن نقول عن الكلام الذي يفعل بنا كل ذلك، و هو متهرب من كل عُقُلِ التفعيل و القافية و الوزن، لا نستطيع أن نقول: إنه ليس شعرًا، و هو يحرض فينا كل تلك المشاعر الرائعة…
و حتى لو اختلفنا على التسمية فإنني أرى أن القصيدة النثرية بهذه الصورة تحلِّق تحلِّق لتعبر حدودًا و فضاءاتٍ لا تستطيع القصيدة الكلاسيكية الولوجَ إليها أو حتى مداناة جنانها.
و لكن علينا الاعتراف أيضا أنَّنا لن نفتحَ البابَ على مصراعيه هنا، لأننا عندها يمكن أن نسمح بدخول الكثير من الكلمات الغريبة عن الشعر بحجة النثر، و إنه من غير اليسير أبدا أن يحقق أحدٌ ما ثنائية( النثر- الشعر).
و في غفلةٍ مني و من الوقتِ الذي يصرم حياتنا، وجدتني يقع قلبي على هاته الكلمات الشعرية التي تدفقت كما السيل العرم إلى أوصالي الجافة فَرَوَتْ ظمأها، و بعثتِ الحياةَ في جنباتِها.
حبات مطر…قصيدةٌ سبَكَتْها الأستاذة سعدية بلكارح، و أقول سبكتها لأن حروفها تساوي الذهب و جمالها أكثر توهجًّا و لمعانًا…نعم هي قصيدةٌ ناعمةٌ طريَّة كما سنابلُ القمحِ في أوجِ اخضرارِها…حباتُ مطر…لا أعرفُ لماذا يخطرُ لي أن أقرأها هكذا( حُبٌّ آتٍ من المطر…أو حبٌّ آتٍ على إيقاعِ المطر)…نعم و هل يجلب لنا المطرُ إلا الفرح و المحبة؟!
هل يجلبُ لنا إلا ذكرياتٍ بمرِّها و حلوها، لا تزال تنفذُ إلى كلِّ ذرةٍ في أجسادنا و أرواحنا؟!
لتكنْ أيها المطر على الدوام قصائدَنا التي لا نفتأُ نغني لها و نفرحُ بها، و نجترها قربَ مواقدِ الذكريات…
نعم…أنتَ أنتَ أيها المطر كنت و لازلت و ستظل الملهم الذي لا نقوى على صدِّ رذاذهِ المتهاطل في نفوسنا لتَنْبُتَ أزهارٌ لها عطرٌ لا يفسَّرُ و شكلٌ لا يضاهى.
أوليسَ المطرُ هو شكلٌ من قصائدِ العشق ترسمها قلوبٌ عاشقة؟!
ـ الشعر نقيض العلم، هدفه المباشر اللذة، وليست الحقيقة!! يقول صمويل تيلور كولردج.
و في هذه القصيدة(حبات مطر) كم أرى هذا التعريف يقبضُ على رهان الشعر و رسالته بكلِّ أشكالِه.
ها هنا تقدم لنا الأديبة الشاعرة أ.سعدية بلكارح نموذجا يحقق الرهان بجدارة، نموذجًا يفيض بالشاعرية النثرية التي تُمتعُنا حدَّ الثُّمالة.
و لن أتوقف كثيرا عند كلِّ شطرٍ أو كلمةٍ في القصيدة، حتى لا نقدِّم كل شيءٍ للقارئِ، و حتى نتركَ له فسحةً من حرية القراءة الشخصية و لذةِ الاستمتاع بتلك القراءة، التي قد تكون أبهى و أعطر مما سنقدم هنا.
دعونا يا صحبي دوما نترك شيئا للآخر، لقمةً يستطيع هضمها من المائدة الدسمة، و رشقةَ عطرٍ يستطيعُ استنشاقها من تلك الزهور الفواحة المتناثرة في روضِ القصيد.
أنا أقول: إنَّ أجملَ ما في الشعر النثري أنَّك تقرأُ فيه ما تريدُ أنتَ، و ما تشعرُ أنتَ و ليس ما يريدُ أو يشعرُ الكاتب، و في هذا اندماجٌ تامٌّ لمشاعر المتلقي مع نصِّ الكاتب لا يحققُه أي شكلٍ أدبيٍّ آخر، و بهذا تتحقَّقُ غايةُ الوصول، تلك الغاية التي تختلفُ عن رسالةِ النص.
و حين نقرأُ نصّ(حبَّاتُ مطر) للأديبة سعدية بلكارح، نرى أننا نقرأُ الكثير مما نريد أن نقرأ عن قصةٍ تسكنُ كلَّ واحدٍ منَّا، و تهطلُ فينا تداعياتها كما حبات المطر المتراشقةِ على بيداءِ نفوسنا لا على صفحات وجوهنا، نعم إنها تمسُّنا من الداخل، تقبضُ فينا على مكامن الألم و الفرح.
و حتى ننساب بلينٍ مع قراءةِ النَّص فسأقومُ بعرضِهِ أوَّلًا:
قصيدة حباتُ مطر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عابث يرشق أفئدة البوح فتنكسر…
تنكســـ
ـــــــر
**
دفقةٌ من ألوانٍ باهتةٍ..
تعكس ظلال نفسي..
على قارعةٍ مطويةٍ بينك وبيني..
تشكو من يباسٍ..

**
شتاؤك هذا المساء يغازلني..
يزرع حباته في مقلتي..
يعانق دمعي..
فأبكي بلا خجلٍ..
**
صواعق الشوق تُدَوي..
تبرق وترعد حولي..
تجرفني سيول الشتاء الماضي إليكَ..
تخدعني زخاتٌ منكسرةٌ على شطآنكَ..
لامرأةٍ أخرى التحفتْ ظلي..
**
ذَرِ المطر يمحُ ما علِقَ بالتلابيب من تسكعٍ..
يغسلْ وجه الأمسيات..
يحتسِ زفراتٍ تتفتق كل شتاءٍ..
لا جدوى من احتراق حروفي أمامكَ..
فما بقي في محبرتي سوى قطرات من حبرٍ تبخرتْ قبل الشتاء..
بِضعٌ منها تساقط على طاولتي هذا الصباح:لامٌ وَ واوٌ..و حرف نداء…
**
طويلٌ جدا… هذا الشتاء..
يتسكع فوق ردائي..
يتوغل في مساحاتٍ جرداء..
تنتهي إلى خواءٍ..
يبحث عن اسمٍ معلقٍ بين زمنينِ..
**
لسعة البرد تنفض كلماتٍ وقعتْ منكَ ذاتَ لقاءٍ ماطرٍ..
كنتَ فيه العاصفة تفتض جموحي..
وكنتُ صنوبرةً تبارز جنونك….
**
ما أسعد ليلي بزخات المطر.. تنقر نافذتي..
تدغدغ صمتي..
مُدَّ أيها الليل يمينكَ..
تصافحْ حُلُمي
وابسطْ شراعكَ تَغُصْ عميقاً
في كُنْهي…
ليس عيباً تجريدي من
نوْمي..
إنما العيبُ تجريدي من
حلُمي…
**
سعدية بلكارح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قراءتي لهذا النص فإنني كما أسلفت لن أقدِّم قراءة كلاسيكية نمطية، تشرح و تفسر معاني الكلمات و مراميها، لكنني سأكتفي بداية بشرح عام لفكرة النص التي تتحدث عن علاقة حب بين رجل و امرأة، استخدمت فيها الشاعرة المرأة طقوس الشتاء لتعبر عن أحداث قصة الحب تلك، و التي تشابه حبات المطر في معاناتها منذ تشكلها في رحم الغيمات و حتى انهمارها بشوق- و بعد برق و رعد و عواصف- إلى الأرض المشتاقة…تلك قصة حبٍّ انتهت كما تنتهي طقوس الشتاء، إلى نهايةٍ حزينة، و فراقٍ مؤلم استشعرته المرأة التي كانت تلك القصة تعني لها حياتها، بينما انتهت بشكل بارد عند الرجل و كأنها بعض قطراتٍ ساذجةٍ من المطر غارت في شقٍّ عميق إلى غير رجعة.
و سأتوقف في قراءتي للنص عند ثلاث محطاتٍ لفتت انتباهي و شدَّت مخيلتي الشعرية و عواطفي الإنسانية، فأحببتُ أن أشارككم إياها.
*** أول ما يشدنا حين نقرأ هذه القصيدة هو تلك الملامح الشكلية التقطيعية للنص سواء على مستوى الكلمات و الحروف أم على مستوى السطور، أم على مستوى نقاط الحذف و الإضمار، و هذه السمات الشكلية ليست موضوعةً بشكلٍ عبثيّ، فالكثير ممن نقرأ لهم نجدهم يلجؤون لهذا التقطيعات لكنهم أبدًا لا يكتبون شعرًا، و يتوه الموضوع من أناملهم حين تجدهم يزرعون تلك التقطيعات دون أن تكون منبعثةً من الجو العام للقصيدة و موضوعها.
هذه السمة الشكلية تضيف برأيي كلماتٍ لم يكتبها الكاتب، و تمنحنا أحاسيس شاسعة البراح دونَ أن تكثر من تكرار الألفاظ و المشاعر، و هذا يشبه ما نقول عنه في لغة كرة القدم(اللعب بدون كرة) و هذا لا يجيده إلا لاعبٌ محترفٌ، يعرف كيف يحقق الهدف.
و تتوقف جمالية تلك التقطيعات في هذا النص على تلك الحنكة التي أجادت فيها الكاتبة، باختيار المكان و الزمان المناسب لها، و حتى تلك النقاط التي تدل على الحذف و الإضمار كانت ناجحةً في زرعِ التأمل و الفضول فينا.
يضاف لذلك أن الموضوع الذي عبَّرت عنه الشاعرة يمتازُ بالمرونة و الليونة الكافية لوضع تلك التقطيعات و تركها توقعُ في نفوسنا الكثيرَ من المشاعر و الافتراضات و التساؤلات، المولِّدة لتعاطفنا و انسياقنا مع عذوبة النص…و بما أنه لا يمكننا التوقف عند كل المواقع و المقاطع، و التي قد تحتاج وقتًا طويلًا، فإنني سأختار نموذجا جميلًا لتلك التقطيعات، من أجل الإيضاح:
عابث يرشق أفئدة البوح فتنكسر…
تنكســـ
ـــــــر
يا لهذا التقطيع الرائع الذي عبَّر أكثر من أي كلام عن ألم الانكسار، عن حزن الانكسار…استخدمت الكاتبة هنا ذكاءًا حادًّا، فكرَّرت كلمة تنكسر، لتجعلنا نزأر من الألم الذي يعاني منه ذاك القلب المكسور، و ما زاد الإحساس بشدَّةِ تلك المعاناة أنَّها عادة لتكسر المكسور، فجعلت كلمة تنكسر جزأين منفصلين في شطرين منفصلين، يحكيان قصَّةً للحزن و اللوعة…و هذه من التقنيات التي قلَّما رأيناها، و ربما يحقُّ لنا أن نمنحَ أديبتَنا براءةَ اختراعٍ بها.
مقطعٌ آخر نقرأهُ هنا:
طويلٌ جدا… هذا الشتاء..
يتسكع فوق ردائي..
يتوغل في مساحاتٍ جرداء..
تنتهي إلى خواءٍ..
يبحث عن اسمٍ معلقٍ بين زمنينِ..
فلو أمعنا النظر في هذا المقطع الصغير مثلًا لوجدنا أنَّهُ لولا تلك التقطيعات الممثلة بنقاط الحذف و الإضمار، و اللجوء إلى التشطير القصير في كل سطر، لكانت الكاتبة احتاجت الكثير من الكلمات لتوصل لنا ما تريد إيصاله، و هذا هو ما يمثِّلُ بجدارةٍ عنصرَ الاختزالِ في الشعر، الاختزال الذي يمكِّننا من الإحساس أكثر بالجمال و المتعة، و يقربنا أكثر من عالم التخيُّل النوراني الذي نبحثُ عنه في عالم الشعر لأننا حقيقةً نفتقدهُ في عالم الواقع…هذا الاختزال الذي يتأتى فقط من خلال استخدام الصور الشعرية الغنية و الخلَّاقة و الولَّادة و التي تستطيع أن تقول الكثير بالقليل من الكلمات.
و عند مرورنا في هذا المقطع لا يمكننا أبدًا أن نتجاوزَه دون أن نشيدَ بتلك الصور الشعرية الرائعة:
الشتاءُ يتسكعُ(استعارة مكنية رائعة) مغلفة بكناية تعمُّ المقطع: فما الشتاء هنا سوى كنايةٌ عن غياب شمسِ الفرح، كنايةٌ عن ابتلال الروح بألمٍ مبرحٍ، نعم كم هو طويلٌ- ليس الشتاء- بل رداءُ الحزن الذي تكتسي به الشاعرة، حزنٌ لا ينتهي إلى شيء، و لا يُفضي إلى خلاص، بل هو ينتهي إلى فراغٍ بلا معنى…ينتهي بين حبيبين كانا يبحثان عن اسمٍ يجمعهما…ربما عن طفل يزيدُ الحبَّ حبًا…ربما عن حبٍّ لا يماثلُه شكلٌ آخرُ من الحب…..لكن للأسف…لا شيءَ..لا حبَّ..لا اسمَ و لا طفلَ هنا).
*** الأمر الثاني الذي يشدني و يثير انتباهي في النص، مدى التماهي و التلازم الذي حققته الشاعرة ما بين البيئة النفسية لها و بالتالي للقصيدة التي كتبت بروحِها و بين البيئة الطبيعية الخارجية، لدرجة أننا في كل مقطع ليس بوسعنا أبدا أن نميز بينهما، و لا نستطيعُ التَّكهُّنَ هل الطبيعة هي من تشكو و تبث همسها و بوحها أم هي تلك الأحاسيس الناعمة الفيَّاضة من قلب الشاعرة، إنَّ الشاعرةَ اعتمدت كلَّ رموز الشتاء( المطر- البرق- الرعد- الصواعق- البرد- السيول…..الخ) فجعلتها رموزًا لمأساتها و حبها و لوعتها و انكسارها و علاقتها بذلك الحبيب البارد، الذي لم يكن على مستوى أحاسيسها و مشاعرها…فأيَّ مقطعٍ ترى نختار هنا للاستدلال على هذا التمازج الرائع الجميل…كلُّها تعجُ به، و كلُّ مقطعٍ يضاهي الآخر جمالًا و إبداعًا…لكنني شخصيًّا جرفني هذا المقطع:
صواعق الشوق تُدَوي..
تبرق وترعد حولي..
تجرفني سيول الشتاء الماضي إليكَ..
تخدعني زخاتٌ منكسرةٌ على شطآنكَ..
لامرأةٍ أخرى التحفتْ ظلي..
فها هنا حيث نجدُ صواعقَ و رعودَ و برقَ و سيولَ و زخاتٍ، نجدُ هذه الطبيعةَ الزاخرةَ بالحركةِ و التفاعل، نجدها كلها تنداحُ من الشاعرةِ و شوقِها و حبِّها و أملِها و ذكرياتِها، ثمَّ خيبةِ رجائِها…هذا التوحدُ ما بينَ الطبيعةِ و ما بينَ الكاتبةِ، ربما يكونُ المحورُ الأساسيُّ الذي بنيت عليه القصيدةُ، فأعطاها كلَّ هذا الوهجَ و هذا العطاء و الروعة…
إنَّ الشوقَ إلى الحبيب يحيط بها من كل حدبٍ و صوبٍ، إنه يصرخ و يلمع و يرعد، فلا تستطيع منه انفكاكًا و انفلاتًا، فتجرفها سيولٌ من الذكريات إلى ذلك الماضي الأثير، تؤمِّلُ النفسَ بحياةٍ جديدةٍ لحبٍّ قديم، لكن هيهات هيهات…أنَّى لها ذلك و ما عادَ الحبُّ سوى ظلٍّ واهنٍ لا حقيقةَ فيه…نعم…نعم…لقد مااااااااات.
و هذا مقطعٌ آخر، يرسمُ لنا تقمُّصًا عفويًّا للطبيعة في جسدِ شاعرةٍ تحاول الصمودَ و الوقوفَ بوجهِ طغيانِ حبٍّ، يحاولُ كسرَ إرادةِ فتاةٍ تعرفُ الهوى أرقى من أن يكون فيهِ شهيدٌ، و أعظمُ من أن يكونَ فيه خاسرٌ و رابح.
فإن كان هو العاصفة، فإنها الصنوبرةُ التي لا تهزُّها عاصفةٌ و لا يحرِّكها طوفان.
لقدِ استطاعتْ أن تصمدَ بأنفَتِها و كبرياءِ الحبِّ الطَّاهرِ، أمامَ عاصفةِ كلماتِه الجارفة، استطاعتْ أن تعلنَ الحبَّ فقط مليكًا:
لسعة البرد تنفض كلماتٍ وقعتْ منكَ ذاتَ لقاءٍ ماطرٍ..
كنتَ فيه العاصفة تفتض جموحي..
وكنتُ صنوبرةً تبارز جنونك….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقطعٌ قصيرٌ لكنَّه زاخرٌ بالحياةِ، زاخرٌ بشاعريَّةٍ نقفُ مشدوهينَ أمام صورِها و بلاغتِها( لسعةُ البرد تنفضُ كلماتٍ: استعارة مكنية)،(كنتَ فيه العاصفة: تشبيه بليغ)،( كنتُ صنوبرةً: تشبيه بليغ)،( صنوبرةً تبارزُ جنونك: استعارة مكنية).
و هذا يعيدنا إلى مقدِّمتِنا عن جمال القصيدة النثرية، بامتلاكها تلك الشساعةَ الرائعةَ في تقديمِ صورةٍ شعريةٍ يعجزُ عنها في أغلبِ الأحيان الشعرُ التقليدي.
*** الأمر الثالث الذي يشدنا في هذه القصيدة، هو تلك النهاية التي ختمت بها الشاعرة قصيدتَها في مقطعٍ يحفُلُ بوجبةٍ فلسفيةٍ دسمة، و بفكرةٍ جاءت كنهايةٍ للقصيدة لكنها في الحقيقة شرَّعتْ أمامنا أبوابَ التأمُّلِ و الأملِ.
نعم في كثيرٍ من الأحيان، نجدُ الشاعرَ في قصيدتِه يحسنُ البدءَ، لكنَّهُ لا يعرفُ كيفَ يختمُ، فتخونهُ الفكرةُ و التعبير، و قد يشذُّ حتى عن فكرةِ النَّصِ، فيأتي بخاتمةٍ تفقدُ النصَّ توهجَهُ و ألقَه، أما هنا فإنَّ شاعرتَنا، لم تحسنْ فقط في النهاية بل أجادت و أبدعت…أقف مذهولًا أمام تعبيرٍ كهذا:
ليس عيباً تجريدي من
نوْمي..
إنما العيبُ تجريدي من
حلُمي…
و كأنَّها بهذه الخاتمة الرائعة الملفتة تقولُ بلسانِ حالِنا جميعًا…نعم جرِّدونا من نومنا، احرمونا من لذَّتِه و راحتِه، و لكنْ لا تجرِّدونا من أحلامنا، فنحنُ قومٌ تعوَّدنا أن نعيشَ على الأحلامِ و للأحلامِ و بالأحلام، و لولاها لفقدنا معنى حياتِنا، إنها هي التي تعطينا الأمل..إنها تمنحنا القدرة على مواصلةِ الطريق مهما عتتِ الظروفُ و قستِ الحياة.
نعم نحنُ نستطيعُ أن نعيشَ بدون نوم و لكنَّنا أبدًا لا نستطيعُ أن نعيشَ بدون حلم…أليستْ هذه هي فلسفة الوجود، و هل يستطيع/ سارتر/، بكل فلسفتِهِ الوجودية، و بكلِّ الأبحاثِ التي كتبها و انشغلَ بها العالم، أن يكتبَ و أن يأتي بفلسفةٍ تفوقُ هذه الفلسفة.
يا سادة…هذا هو الشعر، إنه يمنحنا عتبةً واسعةً للتأمل…إنه يعطينا عمقًا أبعدَ و أكثر توغُّلًا في النفس البشرية مما تفعلُه الفلسفة، و مما يدركُهُ العلم.
في جعبة هذا النص الكثير من الأشياء التي يمكن لنا اقتناصها و الاستمتاع بها و التوقف عندها طويلًا لتأملها، إن كان على مستوى الفكرة أو الفلسفة أو اللغة و بلاغتها بكل ما فيها من صور شعرية مُبهرَة…لكنني آثرتُ أن أقفَ عند تلك النقاط الثلاثة التي تميَّز بها هذا النص الرائع، تلك النقاط التي من الصعب أن نجدها في الكثير مما نقرأه من قصائد النثر.
كل التحية و التقدير لشاعرتنا و أديبتنا المميزة الأستاذة سعدية بلكارح، و أرجو أن أكون قد وقفت على بعض الجماليات التي تمتع بها نصها(حبات مطر)…
متمنيا لها دوام التوفيق و الإبداع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى