دراسات و مقالات

النقــد بين اليوم و الأمس

السعيد عبد العاطي مبارك

قال قائل لخلف : إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك !
فقال له خلف : إذا أخذت أنت درهماً فاستحسنته فقال لك الصراف أنه رديء ! هل ينفعك استحسانك له ؟

عندما نتأمل كلمة ” النقد ” التي تسع كافة المجالات و التخصصات في عصر العولمة …
و أري لابد من التعليل في الحكم لابراز الوجهين في عملية الابداع الفني لا مجرد رصد وجهات نظر دون دليل قوي موضوعي منهجي علمي بعيدا عن الصاق المذاهب و المدارس المستحدثة دون دليل واقعي يخاطب الحالة برومتها .
نمسك بهذا المصطلح النقدي من منظور أدبي ، و من ثم نسترجع معا معني الفعل ( نقد ) أي يتناول الموضوعات بالدرس و التحليل .
و جاء في القاموس :
نقَد الشّيءَ : بيَّن حسنَه ورديئه ، أظهر عيوبه ومحاسنه
نَقَدَ الدَّرَاهِمَ : مَيَّزَهَا ، نَظَرَ فِيهَا لِيَعْرِفَ جَيِّدَهَا مِنْ رَدِيئِهَا
و من الناحية النقدية الأدبية نلحظ ما فسره لنا خلف الأحمر :
قال قائل لخلف : إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك !
فقال له خلف : إذا أخذت أنت درهماً فاستحسنته فقال لك الصراف أنه رديء ! هل ينفعك استحسانك له ؟
فقال : ما ينتهي إلى واحد يجمع عليه كما لا يجتمع على أشجع الناس وأخطب الناس ، وأجمل الناس !
قال جورجي زيدان عن النقد في مجلة الهلال؛ أن الانتقاد يعني إبراز جوانب الاستحسان والنقص على السواء وأن كلمة (انتقاد) ليست تعني إحصاء العيوب وحدها ونريد من باب (الانتقاد والتقريض) كلا الجانبين.
و قد منا الله عز وجل علينا باللغة العربية و جعلها لسانا لنا و شرفها بنزول القرآن الكريم ، و الأبجدية استوعبت الاسماء و المسميات كلها و حوت تجارب الانسان حتي مع المخترعات الحديثة اليوم .
و تنقسم الكلمة اسم وفعل وحرف ، و الكلام يهمنا هنا مع ظلال ” الأدب العربي ” .
بكل فنونه و أغراضه قديما وحديثا و ظهر الشعر بأنواعه ، و الأجناس الأخري من قصة ومسرحية ومقال وخطابة — الخ .
بأقسام جديدة تتمشي مع حركة الحياة وتطور اللغة و الأدب بروح الجمال التي لها دلالات مستفيضة مشرقة فهي نتاج عقل ووجدان الانسان علي هذا الكوكب !.
و ظهرت القصة و الرواية و الاقصوصة وقصة الومضة …
و الشعر فصحي وعامي وزجل و موال و موشح وقوما وكان كان و دوبيت …
و غنائي و ملحمي و غزلي و مقاومة …
كلاسيكي ورومانسي وواقعي ثم تتطور من الوزن الخليلي الارجوزة الي الحر التفعيلة ثم الي المنثور — هلم جرا
فلا نستطيع ان نسجن تجربة كل انسان له روافده وكل قديم كان جديا يومه
فعلي الناقد لا يعيش في عباءة واحدة بل يقف علي مسافة واحد بين أجناس الأدب و أشكال الابداع ينظر فيه بحيادية و موضوعية لا يغفل القديم و لا التغريب و الحضارات و الثقافات تأخذ و تعطي .
لكن علي كل مبدع وفنان يعشق الفنون الجميلة أن يستظل بما يروق و يجد فيه نفسه و للمتلقي الذوق العام و الناقد بعلمية و منهجية يبرز جوانبه العريضة حتي لا يتخلف الركب فالالوان موجودة …
و كما يقول العقاد :
لولا تعدد الأذواق لابارت الســـــــلع !! .
فنحن نريد كلمة نقد عادلة محفزة تضع الامور في نصابه فلا يهاجم صاحب اتجاه بعينه لونا آخر و تحدث معارك خارج العمل نفسه اتجاهات و مذاهب فكم تم ذبح شاعر و أديب قديما لكن ذهب النقد المفتري عليه وخلد التراث العمل فقط .
فهذه واحدة نستطرد هنا من باب التذكرة .
فنحن لا نحتكر و لا نحتقر رأي بل من باب الأمان العلمية نطرح كل الزوايا و علي الجميل أن يتناول من المائدة و يصل الي النتائج و الفائدة في أسلوب حضاري بعيدا عن العبثية و الخصومة فليتخصص في نوع ما و يترك ساحة الابداع لأنها أصبحت سماء مفتوحة وسيل جارف لا يصغ لأحد !!.
والخلاصة : لقد قام النقد عند العرب علي المنهجية و الموضعية في حياد من خلال الدربة و الدراية مع فهم وادراك و تجرد من الميول و الاتجاهات كالقاضي الذي يحكم علي قضية بعينها مستوفية الشروط الاركان منصف عادل حريص علي النتائج .
لكن الناقد الأدبي تحركه المشاعر الجميلة نحو الصورة الفنية للعمل الفني الابداعي بكافة ظلاله و عدم اغفال البيئة المحيطة و الجو النفسي و عوامل أخري مساعدة .
فالناقد كاشف لروعة العمل الفني يقدمه في أطار مقردات و صور و خيال يقربه و يجسده للمتلقي المتذوق في يسر و سهولة نقلا أمينا لا يذبح صاحبه و لا يجامله بل يتحري الصدق داخل عملية التأثير و التأثر حيث طوف بنا عبر الثقافة و التراث و قضايا المجتمع اليومية التي تتصدر وجه الحياة في توازن بين القديم و الحديث .
دون اغراق في الرمزية و الغموض و المذاهب الغربية الغريبة فيحدث صدام عند التغريب و التحديث دون وعي للعلاقات التي تواكب موكب الحياة في واقعية تنهض بالقيم الجمالية في تباين لدلالات تأملية وفلسفية تعكس رؤية تتصدر المشهد و المواقف التي يتفاعل معها و يترجم داخله في تواصل .
فالمخزون الحضاري و الثقافي و الفكري يظهر عند الكاتب المعبر عن مشاعره في قصيدة او قصة او مسرحية او مقال ابداعي تنويري تتجلي فيه روعة النثر التي لا تقل عن روح الشعر بعيدا عن الوزن و القافية .
فعلي الناقد دور اساسي في ابراز هذا العمل و تقديم المقومات الفنية الخالصة تجسيدا معنويا و ماديا في خطوط البيان البلاغي و اللغة التي تستوعب تجربته الخاصة و الخالصة معا .
و بعيدا عن الجدل و الخصومات و التعصب لابد من توضيح و تحليل الرؤي و الامساك بالنقاط الجيدة و الأخري التي فيها قصور، و ذلك بتقديم السبب في رسم منهجي موضوعي مقنع بعيدا عن التعقيد و ادخال عملية الابداع في متاهات عبثية و اسقاطية دخيلة ليس لها ثمرة مرجوة من وراء كل هذا الاجحاف .
فقد أصبح العمل الفني عند الناقد غريبا طريدا شكلا ومضمونا بين روح الأصالة و الحداثة أصابه جمود ورقود و تسلط بين الأمس و اليوم بعد أن غرق في أسماء تفقد حيثيات الشيء المسمي ، دون الوصول الي غايته النبيلة كرسالة هادفة الي المجتمع لتغير ملامح وجه الحياة .
فعلي النقد أن يكون عاملا مساعدا لا عنصرا هداما في اصدر الأحكام علي العمل الأدبي .
و أن يعيش الأديب و الكاتب عصره بكل مفرداته ، فكل قديم كان حديثا في عهده ، بل ينقل منه خلاصة التجارب فلا يتقوقع في مخبأه ، و لا يتجرد من حداثته فيستدعي ما ليس له وجود سريالي مبهم خارج مسارات المنطق مجرد رص لمفردات خاوية عن التقيم و التقويم ليس لها دلالات نصية مفيدة مجرد مصطلحات لا تخدم عملية البناء الفني مطلقا .
فالكاتب المبدع يعيش قضايا مجتمع محملا بعبق ثقافات و حضارات يستخلص منها تجارب الأخرين فيوظفها داخل الجديد يرسم انطلاقة للمستقبل في توازن يضفي علي العمل مسحة من الوفاق و الواقعية بعيد عن التفريط و العيش في عصور سحيقة لا تنفع و لا تفيد مجرد تكرار و استعادة و استهلاك .
فعندئذ تغيب رسالة الفن للفن و للمجتمع و الالتزام بسبب ثقافات عقيقة او الاغراق في مذاهب الغرب التي تدور حول حلقة مفرغة منعدمة القيمة هكذا !.
و عدم اغفال علاقة الأدب بقضايا المجتمع فهو خط بياني يتلاحم مع البيئة ربما صوتها الداخلي الذي يرصد ظواهر بعينها يعيشها الفرد و المجتمع أيضا .
فيصيغها في قوالب متعددة متجددة مع روح العصر التي توكب فترة ذاتية من رحلته مع موكب الحياة .
و علي أية حال لابد أن نفسر المفردات و الصور البلاغية و اللغة الجمالية و الايقاعات التي تحرك العواطف و تمسك بمراحل الفكر في صور ولوحات فنية تنبيء عن حالة الابداع الفني بكل مقوماتها و تغليب بعض الجوانب التي تطفو علي سطح العمل الفني الابداعي داخل الموهبة و الاستعداد و الثقافة و تزاوج عناصر البناء في استثناءات تحكم صيرورة الحالة التي تلازم المبدع فيعيش جو النص الناقد لحظات الدراسة و التحليل وفهم الشخصية و احصاء كل الجوانب الجميلة و محاولة التوضيح لبعض السلبيات في اشارات لها وجاهتها في أسلوب راق مقنع منصف .
فكم من ناقد نال من مبدع في البداية و لكن مع العطاء المستمر وجدناه مرجعا اصيلا في ساحة الأدب و من أعلامه الآن سواء رحل أو مازال علي قيد الحياة لأن العمل الأدبي لا يهرم و لا يموت بل تظل صدي روحه تعطي لكل حديث مرجعا له أصوله .
و أخيرا أتمني أن نرتقي برسالة الأدب و فنونه الجميلة كاتب مبدع و ناقد مبدع و متلقي متذوق مبدع عملية ابداعية مستمرة كالنهر المتدفق بلا توقف في روح جمالية تجديدية بعيدا عن التغريب و الحديث الهابط بل مواكب ترتقي بالكلمة و الصورة في لوحة رائعة تبدو بعبقرية الاتقان و تجنبا للخصومة و الأحكام بدون موضوعية و منهجية فيكتمل دور النقد شكلا و موضوعا و كيفا و كما أضافة الي ثقافتنا و حضارتنا و تشجيعا للمواهب الواعدة من كل الأصناف دائما .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى