قصة

النجم الذي هوى

رعد الإمارة

حتى بعد أن تجاوزت الأربعين من عمري فإن صرخة أمي مازالت مطبوعة في ذاكرتي!هي لم تكن صرخة بالمعنى المفهوم بقدر ماكانت عويل طويل أشبه بعواء ذئبة مجروحة! كانت ليلة من ليالي الصيف التي امتزج حرها بنسيمها البارد الحلو، وكنت قد ازحت الغطاء الخفيف جانبا فمنحت بذلك فرصةللبعوض النهم للنيل من جسدي المكشوف، أتذكر بأني كنت احلم ،وتخيلت بأن صرخة أمي ماهي إلا جزء من هذا الحلم، الذي ضاعت كل تفاصيله بعد أن افقت بعينين مرعوبتين! لا أعرف كيف قطعت المسافة من سطح الدار ذا الطابقين، ولا كيف وجدت نفسي احتضن أبي في باحة الدار وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة!. كانت غريبة تلك الحشرجة التي صاحبت أنفاسه وهو يتطلع بعيون غائمة في وجهي،كنت عاجزا ومنذهلا، تصورت بأن الأمر لايعدو أن يكون تمثيلا، وبأن أبي يفعل ذلك ليرى أثر محبتنا له! ظل أبي لدقائق مطروحا في حجري، كنت غرا وغبيا لا أعرف كيف أتصرف رغم سنوات عمري التي جاوزت العشرون! بدا أبي ثقيلا وانا احرك جسده، كنت ارتجف، تزاحمت حولي شقيقاتي الثلاث وهن ينتحبن بأصوات ضعيفة مما زاد من ارتباكي ، كان الوقت قد قارب الفجر حينها، هرعت اختي التي تصغرني بسنة يصحبها زوجها من طابق بيتنا الثاني حيث يعيشان،انحنى زوج شقيقتي وحاول رفع أبي لكنه سرعان ما افلت جسده. كنت غاضبا وخجلا من نفسي، شعرت بالعار أمام نظرات أمي وشقيقاتي، كيف أصبح أبي ثقيلا هكذا! حتى بعد سنوات طويلة مازلت أسأل نفسي أحيانا هذا السؤال! أمسك زوج شقيقتي بأبي من كتفيه، رفعه عاليا أما أنا فتعلقت بساقيه، بعد خطوتين أو ثلاث رحنا نلهث ونحيب النسوة الخافت يتبعنا، كان الحياء يميز دارنا للأسف! ترك زوج شقيقتي أبي في احضاني، هرع مسرعا طارقا باب الجار المحاذي لنا، أسرع الأخير بلهفة ملبيا النداء، بقيت في مكاني ارتجف، كان الألم قد أصبح شديدا في ساقي، أحسست بخدر كبير وبأني ماعدت أستطيع الوقوف، وضعا ابي في المقعد الخلفي لسيارة الجار، جررت نفسي وصوت أمي والبنات يلاحقني :
-هذا أبوك، دير بالك عليه. احتضنت رأسه الملفوف بكوفية حمراء منقطة، ادرت كلتا يدي حوله،لم يعد ثقيلا أبي، أنه مثل الطفل الآن،حتى أنه يغفو بهدوء على كتفي! توقفت السيارة بباب طوارىء المستشفى الكبير، ظننت بأن جميع من كان هنا سيهرع لنا،ظل هذا الشعور ثابتا في رأسي، تبا لهم! لم يتقدم أحد، أحضر زوج شقيقتي النقالة بسرعة، حملنا نحن الثلاثة أبي بكل هدوء، كنت مازلت احتضن رأسه الحلو الحنون، توقفنا بنقالتنا عند ثلة من الشباب والشابات، كانت ارديتهم البيضاء تضفي عليهم هالة من الزهو، تقدم أحدهم، وضع السماعة بسرعة، جس يد أبي وقال :
-مع من هذا الرجل! (لم ينتظر جوابا،أكمل بصوت خلا من أي تعبير أو إهتمام)هذا الرجل ميت. سمعت زوج شقيقتي ينطق بكلمة واحدة من خلفي، قال بتعجب :
-لا. احتبس كل شىء في داخلي، لم أبكي أو اصرخ، فجأة مات كل شىء جميل في حياتي، توقف الزمن عند كلمة ميت التي نطق بها الطبيب الشاب ببرود، تقدمت نحو أبي، سحبت النقالة لوحدي، اخبرتكم، لم يعد ثقيلا، ابعدته عن نظرات المراجعين والأطباء، دنوت من رأسه، تحاشيت النظر في ملامح وجهه، اكتفيت بوضع يديه إلى جانبه، رن هاتفي، كان زوج شقيقتي مشغولا في إكمال أوراق أبي الميت تماما! حدقت في إسم المتصل، اوه، أنه أخي الأصغر، حتما امي وشقيقاتي بقربه الآن، ارتجفت اصابعي، واصل الهاتف رنينه بنغمته التي أصبحت كريهة الآن، لا لست مستعدا لهذا، بضغطة واحدة من اصبعي أضحت الشاشة سوداء، طلبت سيجارة من احدهم، جلست في ركن البناء، أصبح الألم لايطاق في ساقي الأثنتين، بحثت في داخلي عبثا عن دمعة أو عبرة، حدقت بذهول في وجه زوج شقيقتي الذي حجب عني وجه أبي الساكن، قال بصوت خافت :
-الأوراق كاملة. رمشت في وجهه، عقدت مابين حاجبي ثم رحت أتلفت يمنة ويسرة وانا أفكر، هل يكلمني أنا!!!

تمت

( مهداة إلى روح أبي العظيم)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى