يقولون أن المصائب لا تأتي فرادى! فإذا وقعت إحداها انفتح الباب على مصراعيه! وهذا ما وقع له بالضبط؛ فبمجرد أن أعلن ترشُّحه لعضوية مجلس الشعب زلزلت الأرض من تحت قدميه؛ وانفجر في وجهه بركان هائل من المشاكل التي لم يكن لها وجود من قبل في حياته! وكانت أكبر الحمم التي أحرقت حياته ؛ وأثرت فيه بشكل ٍ كبير تلك الفضيحة التي لا يعرف حتى هذه اللحظة كيف وقعت ؟
صحيح أن ” تُقى ” سكرتيرة مكتبه فتاة بارعة الحسن والجمال، لكنه لم يتحرش بها، إنها تعمل عنده منذ سنوات، وكان يعاملها بكل أدب واحترام، ولم ينظر إليها يوما نظرة ذئب، فما الذي دفعها لفعل ما فعلته ؟!
لقد دخلت مكتبه – في ذلك اليوم الأغبر – ووضعت أمامه بعض الأوراق؛ ليطلع عليها ويضع توقيعه على بعضها؛ كما تفعل كل يوم؛ ثم فجأة ودون سابق إنذار جرت نحو الباب؛ ومزقت ثوبها ! وطفقت تصرخ صراخا هستيريا ؛ وعندما قام ليساعدها؛ ويفهم ما يحدث؛ تشبثت بقميصه ومزقته هو الآخر؛ ثم وقعت على الأرض؛ وهي تجذبه نحوها؛ ففقد توازنه؛ وقع فوقها! في نفس اللحظة انفتح باب المكتب؛ ودلف منه الموظفون؛ وأخرج أحدهم هاتفه المحمول وصور المشهد – بكل برود – وكأنه كان متهيئا لذلك!
سرت أنباء الفضيحة كالنار في الهشيم؛ رغم أنه كان مجرد شخص مغمور، وليس نجما أو ممثلا أو شخصا مشهورا؛ وأصبح حديث المدينة؛ لا سيما بعد أن تقدَّمت السكرتيرة ببلاغ رسمي تتهم فيه مديرها بالتحرش بها ! وقدم الموظف الذي صور المشهد ما لديه من صور كدليل إدانة ! وبين عشية ٍ وضحاها أصبح ” ناصر الغفير ” – الذي كان قد كتب على لافتاته الانتخابية رجل البر والتقوى المحترم النزيه – ذئبا ذا أنياب؛ وزير نساء!
تجاوزت الساعة منتصف الليل، انصرف الجميع منذ بضع ساعات؛ وظل هو في المكتب رغم الإرهاق والتعب الشديد! ألجأ ظهره إلى الأرض؛ نومته القديمة التي كان ينامها؛ ورفع ساقيه مستندا بكعبيه على أحد المقاعد، شرع يفك أزرار قميصه بعصبية فانكسر أحد الأزرار!
كان كمن يغرق؛ يكاد يختنق؛ ولا يرى أمامه أي فرصة للنجاة! أخذ يحدث نفسه بصوت مسموع :
– يظهر يا ” ناصر ” الفقر الذي كنت تظن أنك هربت منه، ونسيته؛ لا يريد أن ينساك .. .. سُمعتك أصبحت في الحضيض؛ شركتك على وشك الإفلاس؛ بيتك على حافة الخراب.. .. هل ستعود إلى حارة ” نسناس ” من جديد ! وعشة الصفيح فوق سطوح بيت البخيل ابن البخيل ” صبحي ليل “؛ أم أن نهايتك ستكون على خيش و برش التخشيبة في ليمان طرة ؟!
رن هاتف المكتب؛ رفع السماعة؛ سمع صوت الحارس على الجانب الآخر يخبره أن امرأة تريد مقابلته ؛ رد عليه باستياء :
– امرأة في هذه الساعة المتأخرة من الليل! أخبرها أن الشركة أغلقت أبوابها؛ ولتأت في الصباح !
فوجئ بصوت أنثوي يداعب طبلة أذنه :
– لن آخذ من وقتك الكثير؛ لديَّ أخبار مهمة ستحل لك كل مشاكلك؛ قابلني ولن تندم !
نهض من على الأرض؛ وهو يحاول إدخال أزرار القميص في ثقوبها؛ و يقول لنفسه :
– أخبار مهمة ستحل مشاكلي !!
ثم رفع صوته وهو يعدل السماعة في يده :
– حسنا .. .. حسنا يمكنك الصعود؛ أنا في انتظارك !
عندما فُتح الباب؛ فوجئ بصاروخ روسي بعيد المدى؛ فاتنة لم يرى امرأة في جمالها من قبل ! قال في نفسه :
– هل أنا على أعتاب فضيحة أخرى ؟!
مدَّت يدها تريد مصافحته؛ لكنه ظل في مكانه؛ ضحكت بتدلل، وهي تقول :
– أقدِّر موقفك .. .. لكنني واثقة أنك لست كما يقولون عنك .
– أرجو منك أن تدخلي في الموضوع؛ ماذا لديك ِ ؟!
– ألن تسمح لي بالجلوس أولا ؟!
أشار لها، فجلست ووضعت إحدى ساقيها على الأخرى؛ وأخرجت علبة سجائرها؛ وقدّاحتها؛ وأشعلت سيجارة؛ وأخذت تنفث دخانها وهي تقول :
– سأدخل في الموضوع مباشرة، فمن الواضح أنك وصلت إلى حالة أسوأ من التي أراد أعداؤك أن يصلوا بك إليها !
– أعدائي ؟!!
– ها ها .. .. وهل كنت تظن أن كل ما يحدث لك مجرد مصادفة .. .. يا سيد ” ناصر ” يوجد أشخاص على استعداد لدفع كل ما يملكون من أجل تدميرك !
– لكن أنا ليس لدي أعداء ! إنني أعامل الجميع بكل احترام؛ ولم أعادي أحدا؛ ولم أسبب ضررا أو أذى لأي شخص !
– أعداء النجاح ما أكثرهم سيد ” ناصر ” !
– لكنني الآن رجل فاشل؛ شركتي؛ بيتي ؛ سمعتي ؛ كل شيء ينهار أمام عيني ّ؛ وأنا عاجز لا أستطيع فعل شيء ! أشعر أنني أسقط من فوق قمة جبل مرتفع؛ وما هي إلا لحظات ويقع الاصطدام !
– يمكنك العودة إلى القمة .. .. كل ما تحتاج إليه جناحان تطير بهما .
– ها ها .. .. لم أضحك منذ أيام ؛ تقولين أطير .. .. إنني أغرق يا سيدتي !
– صدقني يا سيد ” ناصر ” تستطيع أن تمسح كل ما حدث؛ وتعود إلى أفضل مما كنت؛ بل وستنجح في الانتخابات؛ وتصبح عضوا في البرلمان المصري؛ بل ويمكنك أن تصبح – بعد ذلك – وزيرا في الحكومة ، لديك امتيازات كثيرة تؤهلك لذلك .
– مؤكد مع حضرتك خاتم سليمان !
– صحيح .. .. معي خاتم سليمان؛ وعصا موسى؛ وأكثر من ذلك؛ كل ما عليك هو أن توافق على الصفقة التي سنعقدها معك !
اعتراه الذهول؛ إنها لا تبدو له مجنونة؛ كما أنها تتحدث بثقة كبيرة؛ إنه رجل أعمال، وابن سوق؛ ويستطيع التمييز بين من يتكلم في الفاضي، ومن يتكلم في المليان؛ قال لها متسائلا :
– أي صفقة ؟!
ارتسمت على وجهها ابتسامة كبيرة؛ ابتسامة النصر والفوز، لكنها لم تجب على سؤاله؛ بل قالت له :
– الوقت متأخر جدا لمناقشة تفاصيل الصفقة؛ يمكننا هذا في لقاء آخر إذا وافقت طبعا.
ثم قامت من مكانها؛ وتوجَّهت نحو الباب؛ وثب من على كرسيه كالفهد؛ ومد إليها كلتا يديه يريد مصافحتها، وهو يقول لها متوددا :
– لكنني لم أعرف حتى الآن من أنت ِ .. .. و لا كيف سأقابلك !
– أنا ” طوق نجاتك ” .. .. أما عن المقابلة القادمة فلا تقلق .. .. سنتقابل؛ وسنتناقش في تفاصيل الصفقة؛ إنها صفقة العمر بالنسبة لك، ولنا !!
مدت يدها فصافحها بكلتا يديه؛ ثم انصرفت كما جاءت !
بين عشية وضحاها؛ خمد بركان المصائب الذي كاد يحرق حياته؛ ويدفنه تحت حممه ، واستقرت الأرض تحت قدميه؛ فسكرتيرته أقرَّت ببراءته، وعللت ما فعلته بأنها كانت تريد أن ترغمه على الزواج بها! لم يقتنع بالسبب الذي ذكرته؛ فهي فتاة بارعة الحسن؛ وأي شخص يتمنى أن يقترن بها؛ و لو كان رأى منها أو شعر بأي ميل منها نحوه؛ لأقدم على خطبتها دون تردد؛ رغم أنه متزوج، ولديه أربع بنات !
لكنه على كل حال نجا بشرفه من براثن فضيحة مدوِّية؛ وقد رفعت هذه البراءة من قيمة أسهمه لدى الناخبين؛ فنجح بفارق كبير عن أقرب منافسيه؛ وأصبح عضوا ًفي البرلمان؛ واستقرت أحوال شركته وارتفعت أسهمها؛ وزادت مكاسبه بسرعة لم يتوقعها ! وتحولت شركته الصغيرة إلى واحدة من أكبر شركات الاتصالات في البلد !
اشتهر لدرجة أن صوره أصبحت تتصدَّر صفحات الجرائد؛ كما أصبح ظهوره – في أهم البرامج التليفزيونية وأكثرها مشاهدة – أمراً معتادا ً!
كان يشعر أن هناك قوة خفية تدفعه نحو القمة؛ لدرجة أنه بدأ يزاحم رجال السياسة المخضرمين الذين كان يرى صورهم؛ ويسمع أخبارهم، ولم يحلم يوما بمقابلة أحدهم، أو حتى مصافحته؛ وبعد أن أنهى البرلمان دورته؛ تم اختيار الرجل ليكون وزيرا للاتصالات !
كان اليوم الأول له في مبنى الوزارة؛ والذي ازدحم بباقات الورود والزهور؛ وعبارات التهنئة؛ والترحيب؛ وتمنيات كثيرة له بالتوفيق في منصبه الجديد، وجذب انتباهه سماعه أحد المهنئين يقول له :
– والله العظيم معاليك أنسب شخص لهذا المنصب؛ فأنت جدير به ؛ أنت مفجِّر ثورة الاتصالات في هذا البلد!
ذكَّره هذا الكلام بما أخبرته به الفاتنة التي قابلها مرتين فقط على مدار خمسة أعوام؛ لقد قالت له في اللقاء الأخير؛ بعدما وقع موافقا على بنود الصفقة العجيبة:
– ستصبح شركتك أعظم شركة اتصالات في هذا البلد؛ وستصبح وزيرا للاتصالات .
وقتها ظن أن هذا الكلام مجرد ديباجة لتمرير الصفقة، لكنه الآن بات يدرك جيدا أن كل ما قالته له لم يكن مجرد كلام !
فعلى مدار خمسة أعوام حصلت شركته على عقود كبيرة لم يكن يحلم بها؛ وبأسعار زهيدة؛ بمفرده لم يكن يستطيع إنجازها؛ بدأ يتساءل في قلق :
– من هؤلاء .. .. وماذا يريدون ؟!
لا تزال كلمات المرأة تتردد في أذنيه :
– ستصل إلى أكثر مما تحلم به، بمساعدتنا طبعا؛ وفي المقابل لا نريد منك إلا أمرا واحدا؛ خصخصة شركة الاتصالات العامة؛ والموافقة على بيع جميع أسهمها .
وقتها سألها بكل سذاجة :
– تتحدثين وكأنني فعلا سأصبح وزيرا مع أنني لم أحلم يوما أن أصبح مديرا لهيئة الاتصالات في هذه المدينة، ثم إنني .. .. بصراحة معي شهادة دبلوم ، وليست شهادة جامعية كما يظن الكثير !
– ليس لدينا وقت للأحلام؛ نحن نضع أهدافا؛ ثم نحققها ، وعليك أن تتعلم منا !
– ومن أنتم ؟!
– مؤسسة اتصالات ضخمة؛ لنا في كل بلد رجال نساعدهم حتى يصلوا إلى أعلى المراكز؛ ويصبحوا من أصحاب النفوذ والجاه والسلطان؛ وبذلك يتمكنون من رعاية مصالحنا .
– إذا أنتم تريدون خصخصة الشركة العامة للاتصالات لتشتروا أسهمها .. .. ولكن لماذا ؟!
– لدينا أسبابنا .. .. وأسبابنا هي سر المهنة كما تقولون !