العربيّة.. جذور ومصطلحات حيدر محمود حيدر
اللّغة العربيّة مـن اللّغــات الساميّة,وهي فرعـان: لغة الجنوب, ولغة الشّمال, وهما تختلفان اختلافاً ملموساً,وقد كانت لغة الجنوب اليمنيّة, أكثر اتّصالاً باللّغة الحبشيّة والأكاديّة. ولغة الحجاز أكثر اتّصالاً باللّغة العبريّة والنبطيّة. لقد تطوّرت لغة الشّمـال المضريّة إلى أن صارت لغة الأدب, نتيجة اختلاطها بالحميريّة وسائر اللّهجات القبليّة. فكان من ذلك لغة مثاليّة, هي لغة المجتمعات الأدبيّة ولغة الشّعر والخطـابة. وقد ساعدت الأسواق وقريش على نشرهــا وتعزيزها, وغلبت عليهـا اللهجة القرشيّة. وتمتاز تلك اللّغة بأنهـا أعرابيّة اشتقاقيّة, فيها ضروب من* ( النّحت, والقلب, والتّرادف, والمجاز) *.
* – النّحت: نحت الكلمة:ركّبها من كلمتين أو أكثر نحو:( سامراء)من (سرّ من رأى) و(البسملة )من (بسم الله الرّحمن الرّحيم).
* – القلب: وهــو الكــلام الذي قلبت حــروفـه ولم تتغير قــراءته.مثــال:
( عــرضت الحــوض على النّاقة) بــدلاً مـــن(عرضت النّاقة على الحوض).
* – الترادف:إيراد الكلمات التي لها معنى واحد.ومنه جاء اشتقاق المترادفات.
* – المجاز:هو اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له.مثال: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة == وقومي وإن ضنّوا عليّ كرام
البلاد لا تجور (ذكر البلاد وأراد أهلها على سبيل المجاز).وأمّا الكتـابة بالعربيّة, فلم توضع الحروف وضعاً,ولكنّها تولّدت بتنّوع الحـرف النّبطي, الّذي كـان شائعاً في شمـال جزيرة العرب قبل الإسلام. وتكوّن حلقات سلسلة الخطّ العربيّ ثلاثاً:
– أولّهـــا: الخطّ المصريّ القديم بأنواعه الثّلاثة: الهيروغليفيّ, والهيراطيقيّ, والديموطيقيّ
– وثانيها: الخطّ الفينيقيّ
– وثالثها: الخطّ المسند, وعرف منه أربعة أنواع: الخطّ الصّفوي, والثّمودي, واللّيحاني, والسسبأي والحميري, ومن المسند عرف الخطّ الكندي, والنبطي, ومنه الخط الحجازي (وهو الخط النسخي العربي). وأما الخطّ الكوفيّ فهو نتيجة هندسة ونظام في الخطّ الحجــازيّ.
إذاً فــوق هــذه البوادي العربيّة, نشأت لغتنـا العربية,وتطوّرت إلى اللّغـة التّي نتحدّث بهـا اليوم, وأصبح لأدبهــا الّذي نعتزّ به أقسام وأنــواع, وتطوّر عبر العصور الأدبيّة والتاريخيّـة مـن العصر الجــاهليّ إلى
العصر الحـديث؛ مــروراً بالعصر الراشديّ, والإسلاميّ, والعباسيّ, والتركيّ. ووصلنا مـن أدب أجدادنا الكثير, إلا أن العلمـاء قالوا: بأن ذخيرتنا اللغويّة فقدت كثيراً عندمـا فقدنـا من أدبنا العربي أكثره.يقول أبوعمرو بن العلاء وهو عــالم نحويّ: (ما انتهى إليكم ممـا قالت العرب إلا أقلّه, ولو جـاءكم وافراً، لجــاءكم علم وشعر كثير).
ونتيجة لهـذا اليمّ الزّاخر, والفيض الّذي فاضت به مكتباتنـا ودواويننا من أدب العرب وضعت اللّغة تـحت المجهر,فأصبح لها بحوث ودراسات للمحافظة على أصولهـا وفصاحتها,ومنها مــا تناول الجانب اللّغويّ في لغتنـا العربيّة السّمحة. ولقد وصفها الأستاذ محمد خليفة التونسي, وهــو باحث لغويّ معروف, بــأنّهـا(لغة عبقريّةً). يقـول في ذلك: ( ولا معنـى للعبقريّة عنـدنا, إلا القدرة على التشّكل, وإنّمـا نعني بعبقريّتهـا إمكـان ظهور المعاني فيها بأشكال مختلفة, ملائمة لما يريد المتكلّم, حين يكون متمكّناً من اللّغة, بليغاً فيها كيفما كانت المعـاني الّتي يريد أداءها, أي على اختـلاف المقامات, لأنّ لكلّ مقام مقالاً. والمقـام هو الحال الّذي يــحمل المتكلّم على إيــراد عبــارته, على صورة خاصّة, أو على صورة دون سواهــا مــن الصّور ومقتضى المقــام, هـو هـذه الصّورة الخاصّة للعبارة). وتتمثّل عبقريّة لغتنا, أو معـالم سماحتها في تعــدد طرق الأداء فيهـا, وتعدّد صيغ الكلمات والجمل على وفق المعاني, الّتي يريد المتكلّم أداءهـا مع دقّـة هذا الأداء وجماله.
ولا يتحقّق ذلك إلا بالاطّــلاع المتعمّق, الواسع, الدّائم, على تراث لغتنـــا في نشأته وتطوّره منــذ العصرالجاهليّ حتى عصرنا الحاضر. سواء منه شعره, ونثره الفنيّ, والتّأليفي في شتّى مجالات المعرفة.
وقديماً قيل: (مـن يعرف كثيراً, يغفر كثيراً). وهــذا يصدق في مجـال اللّغة والأدب, كما يصدق في مجال آخـــر ،وتراثنــا الثّقافيّ كلّه هو المصدر الوحيــد, الّذي نستمدّ منــه علوم اللغة بروحهـا وضوابطهـا, من خــلال تطوّرهــا, بتطوّر ملكات أهلهـا, وتطوّر معارفهم وتوسيعها. ولو أنّنـا توسّعنا فـي الإطّـلاع العميق, على هذا التّراث المتطّور, لربّما قلنـا كمـا قال الخليل بن أحمد صاحب أعظم عبقريّة لغويّة عندنا:(لغة العرب أكثر من أن يلحن متكلّم).أو كما قال الكسائيّ:(على ما سمعت من كلام العرب, ليس أحد يلحن إلا القليل)،أو كما قـال الأخفش الأكبر:(أنحى النّاس, أي: أعلمهم بالنّحو, ـمن لم يلحن ابداً). وكلّ هؤلاء من علمــاء لغتنا العربية العظام.