دراسات و مقالات

الربيع و الشـــــــعراء – تغريدة الشــــعر العربي – السعيد عبد العاطي مبارك – الفايد

 

أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا
” البحتري ”
تِلكَ الطَبيعَةُ قِف بِنا يا ساري حَتّى أُريكَ بَديعَ صُنعِ الباري
الأَرضُ حَولَكَ وَالسَماءُ اِهتَزَّتا لِرَوائِعِ الآياتِ وَالآثارِ
” أمير الشعراء : أحمد شوقي ”
———-
نعم بداية الحديث عن ( الربيع ) و موكبه الجميل البديع ” ذو شجون ” ، و لم لا فهو عرس الحياة و عنوان صبا و شباب الانسان مع فصول السنة ، حيث تتجدد الطبيعة بالخضرة و الألوان و النسيم الذي يعطر الأكوان ، و تتزين الأرض ، و تصفو السماء ، و يغرد الطير و يتفتح الزهر ، مظاهر مبهجة جميلة رائعة تلهم الشاعر و الفنان فيترجم مشاعره بأحاسيس نبيلة صادقة تؤثر في المتلقي بكافة الظلال … !! .
و لم تمر لحظة الا و نستعيد رائعة البحتري ” أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتي كاد أن يتكلم ”
و من ثم صال و جال الشعراء قديما و حديثا معه
مع عيد الربيع :
عيد الربيع والذي يُطلق عليه في مصر شم النسيم، هو عبارة عن مهرجانٍ سنوي يقام في فصل الربيع، وينسجم هذا المهرجان مع موروثٍ ثقافيٍ قديم، حيث إنّ عيد الربيع كان من أعياد الفراعنة (قدماء المصريين)، ويحتفل بهذا العيد جميع المصريين، ومن مظاهر الاحتفال به أكل الفسيخ (سمك)، وزيارة المتنزهات وتلوين البيض ، و منظر الاطفال في الصباح الباكر مع الخروج الي الحقول والمتنزهات و الشواطيء .

أمّا تسمية شم النسم فتعود إلى أصل الكلمة الفرعونيّة (شمو)، وهي مفردة مصريّة قديمة لها معنيان: المعنى الأول: أنّ هذا العيد يرمز عند قدماء المصريين إلى يوم بعث الحياة، حيث إنّ المصريين قديماً كانوا يعتقدون بأن يوم العيد هو يوم أول الزمان أو بداية خلق الكون والعالم كما كانوا يتصورونه، وعلى مر العصور تم تحريف الاسم حيث أضيف له اسم النسيم، لما يمتاز به هذا الفصل من اعتدالٍ في مناخه ورقة نسماته، وما يصاحب هذا المناخ المعتدل من خروجٍ إلى المتنزهات والحدائق والاستمتاع بجمال وسحر الطبيعة في مثل هذا الفصل.
و عند اليهود :
أُطلق عليه اسم (عيد الفصح) وتعني الخروج أو العبور باللغة العبريّة، احتفالاً ببداية حياةٍ جديدة بعد نجاتهم.

و عند المسحيين :
فكان ( عيد القيامة ) يوم الأحد يليه مباشرةً عيد الربيع يوم الإثنين، وسبب ارتباط عيد القيامة بعيد الربيع هو أنّ عيد الربيع كان يقع في فترة الصيام الكبير ومدته خمسة وخمسون يوماً، والتي كانت تسبق عيد القيامة

و في ظل الاسلام :
لقد استمر الاحتفال بعيد الربيع بعد دخول الدين الإسلامي كنوعٍ من التقليد المتوارث عبر الأجيال والعصور، ولم يطرأ عليه أي تغيير يذكر.

إنَّ الشَّمْسَ والدفء والصحو والطير والزهر والزرع والماء من خصائص مصرَ الطبيعية، لا تَنْفَكُّ عنها طِيلَةَ العام، حتى ألِفَتْها المشاعر والنفوس، فلا تَشتاقُها لأنَّها لا تَغيب، ولا تحتاجُها لأنها لا تنْقَطِع، ومن هُنَا تَشابَهَتِ الفصول الأربعة في حِسِّ الشاعر؛ فلا يكادُ يرى اختلافًا بينها إلا في حَيَوِيَّة الشتاء وشاعريَّة الخريف، ولذلك لم يَجِدِ الشعراء ما يقولونه في الربيع، فإذا قالوا مدفوعينَ بغريزة المحاكاة أو بشهوة المُعارضة، قالوا كلامًا قد يكون مُنَضَّدَ الألْفَاظ، مُجوَّدَ التشابيه، ملوَّنَ الصور؛ ولكنَّ الفرق بينه وبين الشعر الصحيح، يكون كالفرق بين الجماد والحيّ، أو بين الدُّمية والمرأة.

يقول البحتري في وصف الربيع قصيدته ذائعة الشهرة حتي اليوم :
أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا
يُفَتّقُهَا بَرْدُ النّدَى، فكَأنّهُ يَنِثُّ حَديثاً كانَ قَبلُ مُكَتَّمَا
وَمِنْ شَجَرٍ رَدّ الرّبيعُ لِبَاسَهُ عَلَيْهِ، كَمَا نَشَّرْتَ وَشْياً مُنَمْنَما
أحَلَّ، فأبْدَى لِلْعُيونِ بَشَاشَةً، وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِما
وَرَقّ نَسيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ يَجىءُ بأنْفَاسِ الأحِبّةِ، نُعَّمَا
فَما يَحبِسُ الرّاحَ التي أنتَ خِلُّهَا، وَمَا يَمْنَعُ الأوْتَارَ أنْ تَتَرَنّما
وَمَا زِلْتَ خِلاًّ للنّدَامى إذا انتَشُوا، وَرَاحُوا بُدوراً يَستَحِثّونَ أنْجُمَا
تَكَرّمتَ من قَبلِ الكؤوسِ عَلَيهِمِ، فَما اسطَعنَ أنْ يُحدِثنَ فيكَ تَكَرُّمَا

و ها هو شعر ابن الرومي الذي يجسد جمال المشهد تجسيدا رائعا فريدا في وصف مركب لموكبه الأخضر :
ضحك الربيعُ إلى بكى الديم وغداً يسوى النبتَ بالقممِ
من بين أخضرَ لابسٍ كمماً خُضْراً، وأزهرَ غير ذي كُمَم
متلاحق الأطراف متسقٌ فكأنَّه قد طُمَّ بالجَلم
مُتَبلِّجِ الضَّحواتِ مُشرِقها متأرّجُ الأسحار والعتم
تجد الوحوشُ به كفايتَها والطيرُ فيه عتيدةُ الطِّعَم
فظباؤه تضحى بمنتطَح وحمامُه تَضْحِي بمختصم
و يطالعنا بديع الزمان الهمذاني عن برق الربيع ولامعانه باللون الاخضر الذي يصبغ به الطبيعة مثل الثلج في موسم الشتاء بين دفء و حنان فينطلق بنا حول البحر المتدفق بوحي الالهام و الجمال :
برق الربيع لنا برونق مائه فانظر لروعةِ أرضه وسمائهِ
فكأنَّه هذا الرئيس إذا بدا في خلقه وصفائه وعطائهِ
ما البحر في تزخاره والغيث في أمطاره والجود في أنوائهِ
بأجلّ منه مواهباً ورغائباً لا زال هذا المجد حول فنائه
والسادة الباقون سادة عصره ممتدحين بمدحه وثنائهِ
و هذا ابن شهيد الشاعر الأندلسي يتغنى بالنيروز :
وأتـاك بالنيروز شـوق حـافز وتطـلـع للزور غـب تطـلع
وأفـاك في زمن عجيب مونـق وأتاك في زهر كـريم ممـتـع
فانظر إلى حسن الربيع وقد جلت عـن ثوب نور للربيع مجـزع
فكـأن نرجسها وقد حشدت بـه زهـر النجوم تقاربت في مطلع

و يقول ابن خفاجة الأندلسي عن وصف بيئة الأندلس :
يا أهل الأندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
ماجنة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت اختار
ثم يصف لنا الطبيعة في فصل الربيع حال تزينها ، وكحال اهل المشرق أيضا :
وكِمـامةِ حَـدَر الصـباحُ قناعَها عن صفحةٍ تَندَى من الأزهارِ
في أبطحٍ رَضعَت ثـغورُ أقـاحه أخـلافَ كلِّ غمـامة مِدرار
نَثَرت بحِجر الأرض قيه يدُ الصَّبا دُرَرَ النَّدى ودراهـمَ النّـوَّار
وقد ارتدى غصـنُ النقا وتقـلَّدَت حَلي الحَبـاب سوالفُ الأنهار

يقول امير الشعراء أحمد شوقي عن الربيع :
مَرْحَبًا بِالرَّبِيعِ فِي رَيْعَانِهِ وَبِأَنْوَارِهِ وَطِيبِ زَمَانِهْ
زُفَّتِ الأَرْضُ فِي مَوَاكِبِ آزَا رَ وَشَبَّ الزَّمَانُ فِي مِهْرَجَانِهْ
نَزَلَ السَّهْلَ ضَاحِكَ الْبِشْرِ يَمْشِي فِيهِ مَشْيَ الأَمِيرِ فِي بُسْتَانِهْ
عَادَ حَلْيًا بِرَاحَتَيْهِ وَوَشْيًا طُولَ أَنْهَارِهِ، وَعُرْضَ جِنَانِهْ
لَفَّ فِي طَيْلَسَانِهِ طُرَرَ الأَرْ ضِ فَطَابَ الأَدِيمُ مِنْ طَيْلَسَانِهْ

ثم يطالعنا شوفي في مقطوعة بديعة أخري عن الربيع قائلا :
آذَارُ أَقْبَلَ قُمْ بِنَا يَا صَاحِ حَيِّ الرَّبِيعَ حَدِيقَةَ الأَرْوَاحِ
وَاجْمَعْ نَدَامَى الظَّرْفِ تَحْتَ لِوَائِهِ وَانْشُرْ بِسَاحَتِهِ بِسَاطَ الرَّاحِ
صَفْوٌ أُتِيحَ فَخُذْ لِنَفْسِكَ قِسْطَهَا فَالصَّفْوُ لَيْسَ عَلَى الْمَدَى بِمُتَاحِ
وَاجْلِسْ بِضَاحِكَةِ الرِّيَاضِ مُصَفِّقًا لِتَجَاوُبِ الأَوْتَارِ والأَقْدَاحِ
ثم نختم أشعار شوقي بمقطوعته التأملية في فلسفة عشق و هيام مصورا الموقف :
تِلكَ الطَبيعَةُ قِف بِنا يا ساري حَتّى أُريكَ بَديعَ صُنعِ الباري
الأَرضُ حَولَكَ وَالسَماءُ اِهتَزَّتا لِرَوائِعِ الآياتِ وَالآثارِ
مِن كُلِّ ناطِقَةِ الجَلالِ كَأَنَّها أُمُّ الكِتابِ عَلى لِسانِ القاري
دَلَّت عَلى مَلِكِ المُلوكِ فَلَم تَدَع لأدِلَّةِ الفُقَهاءِ وَالأَحبارِ
مَن شَكَّ فيهِ فَنَظرَةٌ في صُنعِهِ تَمحو أَثيمَ الشَكِّ وَالإِنكارِ

و يقول شاعر الاطلال ابراهيم ناجي عن الربيع :
مرحى ومرحى يا ربيع العامِ أشرق فدْتك مشارقُ الأيامِ
بعد الشتاء وبعد طولِ عبوسه أرِنا بشاشةَ ثغرِكَ البسّامِ
وابعث لنا أرجَ النسيمِ معطراً متخطراً كخواطر الأحلامِ
و نختم هذه التغريدة بشعر هاشم الرفاعي الذي يصور لنا خروج الاطفال في يوم شم النسيم في مشهد متناغم يجسد لنا مدي عشق الانسان للطبيعة الغناء وارفة الظلال بين الخمال الجميلة و الازهار و الاطيار والتي تدل علي قدرة و وجود الله عز وجل و عظمة الخالق المنعم و تفضله علي سائر المخلوقات بالنعم الكثيرة —
فيحشد لنا الشاعر مشاهد ومواقف تحرك الذهن نحو هذا العالم الواسع المركب في صور تتلاقي مع مسحة الجمال المستمر قائلا :
و أطفال علي الطرقات في ثوب الصبا الغض
تخالهم و قد ساروا ملائكة علي الأرض
بأيديهم مناديل المني و الخبز و البيض
يسر الدهر بعضهم و قد يقسو علي البعض

هذه كانت مقتطفات من شعرنا العرب حول الربيع سطرها الشعراء نبضات جمالية تصور موكب الحياة في ظل مظاهرها الرائعة من زرع و خضرة و زهر و طير عناصر تضافرت في رسم لوحة فنية متناسقة ننعم بها بين الواقع و الخيال دائما

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى