قصة

الحـــــّدار حكايا عتيقة… بلا تصرف

جمعة العنزي

الزمان؛ سبعينيات القرن الماضي, المكان؛ قرية نائية, هناك في الشمال, على (تخوم الوطن العربي) وعلى بعد مرمى حجر من الخط الشمالي الذي رسمه قلم المسيو (بيكو) على خريطة مستقبلنا وهو يدخن غليونه برفقة المستر (سايكس) في ليلة دهماء, مظلمة, من ليالي عام 1916, قبل أن يأتي (أتاتورك) الصاعد بشتات السلطنة العثمانية ويقوم بتعديل هذا الخط
عام 1923 في لوزان السويسرية.

مساء ذلك اليوم توافد بضعة رجال من القرية إلى بيتنا وتحلقوا حول الموقد الصغير في ليلة شتاء قارسة, غداً سيذهب والدي (حدّار) إلى المدينة…

– أحضر لي نفس هذه… قال الخال أبو عوده, وهو يمسك بعلبة صغيرة وملونة, عرفت أنها لتغيير لون شعره الأشيب, وهنا تمعنت في شاربه الأسود المصبوغ بعناية, والذي بدى معه وسيماً برغم كبر سنة بوجهه الأصبح وعينيه الحادتين.

– علبتين من الحلاوة… قال آخر, وتتالت الطلبات:
– بطاريات للمذياع, أمس فاتني (مجلس أبو حمدان) وقصة (أم حديجان)…

– تتن غازي (1)…
-ثوب لعيسى… على صوت مسامرة هؤلاء الأحبة, وطرق زخات المطر على باب الحجرة الخشبي, وأزيز الرياح في (الطاقة) (2) الغير مغلقة بإحكام, تلحفت بلحاف من الصوف الدافئ, وبين صحو ونعاس تناوبتني رؤى وأحلام عذبة…

سبق وأن حضيت برحلة قصيرة في (باص احماصي) وعلقت بذاكرتي مشاهد لا تنسى… أحسبه كبيراً وفارهاً, أزرق اللون بخطوط طولية بيضاء, متساوي الحواف, على الجدار الداخلي للحافلةكتبت عدة عبارات بخط باهت اللون لمرور الزمن, لكنه جميل: (ممنوع مد الرأس واليدين من النوافذ), (يجب على الركاب حمل هوياتهم), (لسنا مسؤولين عن فقدان الأغراض داخل السيارة). سقف الحافلة مزخرف بطريقة متقنة ومتناسقة بخيوط ملونة دقيقة تتدلى منه أهداب مشرشبة بديعة على شكل فوانيس, في مرآة الوسط عُلق طاووس ذهبي اللون و(مسباح) مجدول من
الخرز الصغير جداً (النمنم)

(حدّار) إذاً أنا كذلك؛ حدّار, لكن ما معنى هذه الكلمة؟ أعرف أن الحدّار هو من يذهب إلى المدينة للتسوق, ولطالما تساءلت عن أصل هذه الكلمة!

الإجابة وصلتني بعد أكثر من ربع قرن من ذاك الوقت, حين التقيت بالمؤرخ المبدع (أبو صايد الشمري) الذي تحدث بإسهاب, ودقة, ومتعة, عن أشياءكثيرة التقطت منها التالي:

أجدادنا الأولون كانوا يقطنون في (عالية نجد) المرتفعة عما يحيط بها من أراضي المعمورة, وكان الناس إذا ما أرادوا السفر لتجارة أو غيرها لمدن خارج إطار (عالية نجد) يرددون عبارة (نبي نحدر) أي نرحل باتجاه الأراضي المنحدرة, وبتفسيري الخاص بي وجدت أنه ومع مرور الأيام أصبحت هذه الكلمة (حدار ) تطلق على كل من كان يذهب إلى المدينة للتجارة , أو للتبضع ورحلت هذه المفردة معهم إينما رحلوا.

وسط ضباب كثيف تلا ليلة ماطرة من ليالي كانون الأول/يناير ومع خيوط الفجر الأولى ايقظتني أمي الحانية, واكتمل صحوي مع قرقعة لذيذة لأكواب الشاي في ركن الحجرة حيث وجبة الإفطار المعتادة,كوب حليب دافئ وصحن (خاثر) (3) وأرغفة ساخنة من خبز القمح, وربما قليل من الزعتر والزيت… قبل أن أنام كنت قد أعددت ملابس السفر, ثوب وحيد ترابي اللون, ومعطف أسود طويل, ووشاح صوف ملون أتلفح به حول عنقي ليقيني قر الصباح. شيعتني أمي بنظرات ملؤها الود, وتابعتني بلهفة غريبة وكأنني راحل إلى ما وراء البحر…

– انتبه لنفسك… الطريق وعرة

– لا تخلع معطفك فالبرد قارس…

لم تنقطع توصياتها بالرغم من أنها ُحجبت بالظلام الكثيف:

– احذر الغرباء… مع السلامة.

كان علينا أن نمشي على الأقدام لمدة تقارب الساعة للوصول إلى القرية المجاورة حيث المسار المعتاد للحافلة, أو (باص احماصي)كما اعتاد الناس أن يسموها.

الشمال الغربي؛ هناك حيث يأتي الأمل, ما برحت أرنو ببصري كل حين إلى جهة الشمال الغربي, خلف تلك الجبال الداكنة, شديدة الغموض, التي تحفظها مخيلتي جيداً بالرغم الضباب, من هناك تأتي الحافلةكطائر الفينيق الذي ينبت من الرماد… الشمال الغربي؛ هذه الوجهة بقيت ما حييت تمثل لي المكان الذي قد يأتي منه الأمل, أينما كنت, وفي أي زمان, إذا ما كان هناك أمل منشود فإنني وبلا تفكير أرقب الشمال الغربي.

– إذا ما رأيت (ضوح (4) احماصي) فأخبرني. قال والدي.

أمعنت النظر, لا شيء سوى الضباب الكثيف, وخيالات لسنا نجمة بعيدة.

تمضي الأيام, وتتوالى السنين, نرحل غرباً وشرقاً, شمالاً وجنوباً, تتناوبنا أيام سعيدة وأخرى عصيبة, مررنا بلحظات فرح لا توصف, بلقاء حبيب, أو نجاج في مسار من مسارات الحياة, ولحظات حزن, لفراق عزيز, أو انتكاسة ما, هل ما زال هناك ما هو مفرح بهذه العالم الغارق بالدماء والدموع؟

أجمل البحار: تلك التي لم نزرها بعد أجمل الأطفال: أولئك الذين لم يولدو بعد أجمل أيامنا: تلك التي لم نعشها بعد أجمل الكلمات: تلك التي لم أقلها

بعد! ماذا قلت يا ناظم؟”

يزداد الطريق شحوباً… في هنيهاتي العابرة أسرق من العمر لحظات, أرحل على جناح يمامة إلى هناك, إلى تلك القرية المنسية, إلى ذاك الدرب ذاته؛ أجدني أقف متلفحاً بوشاحي الذي لم تخف الأيام تفاصيله عن ذاكرتي المتعبة, هّدابه المجدول من طرف واحد, وخط برتقالي عريض في الوسط, مع خطين رماديين على الأطراف. مازال الضباب يلف المكان, والأمل لم يولد بعد, لحظة المخاض ذاتها تلك التي أبحث عنها, سعادة غامرة اجتاحت روحي المدنفة؛ لا شيء أبداً يعدل ذلك الشعور؛ شعور انتظار الأمل الموعود بتلك اللحظة؛ انتظار بزوغ (ضوح احماصي)… من الشمال الغربي.

الرياض, مايو/أيار 2018م

المفردات/

1 نوع من التبغ 2 كوة صغيرة في الجدار 3 لبن رائب 4 إشعاع لمصدر ضوء غير ظاهر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى