1- ألتحليل ألنقدي:
يبدأ القاص ثائر البياتي قصته بجملة تضعنا في عدة مسارات لابد من تتبعها وتفكيك خفاياها. ” هَبَّتْ نسمةٌ في غير أوانها فشرحت صدري وخفق لها قلبي وأزالت بعض التعب.” ونتساءل: أيُّ نسمةٍ تشرحُ صدرَ من يستنشقها؟ ولماذا في غير محلها؟ وعندما نلاحظ عنوان القصة، يتبادر إلى الذهن أن رائحةَ عطرٍ انسابت لأعماقه أثارت رد فعل لم يرَ له “تأثيرًا على وجهِ احد.” نسمة غير متوقعه فهي في “غير أوانها..” ثم نفهم أنه في موقف حافلة نقل الركاب حيث صعد إلى الطابق العلوي و” ما ان جلستُ لمس كتفي كف رقيق ناعم وشممت عطرا لطالما حملني الى بساتين نخيل وجداول وعشب ندي…” إنها ذات الرائحة التي شمها بموقف الحافلة وهذا يعني بأن صاحبها ويبدو صاحبتها بنفس الطابق. أجل لابد أن يعثر عليها ويميزها حيث التفتَ باحثاً عنها لكنه لم ير وجهاً يعرفه. “.. سارت بنا الحافلة تتهادى وعادت بي السنوات…”، بدا شريط الذكريات يتداعى في مخيلته لتتكشف لنا صاحبة العطر الجالسة بجانبه ذات يوم، ليبدأ الحوار بكذبة، ويبدو أنه ماهر في الوصول لمبتغاه عندما استدرجها ” ألستِ طالبة في معهد الادارة؟ فأجابت دون ان تلتفت: لا انا طالبة في اكاديمية الفنون الجميلة…” . لقد استطاع إذن استدراجها وهاهو يعترف لنا ويقول : “فكذبتُ ثانية وقلت: لكني رأيتكِ كثيرا، ربما من ترددي المستمر على الاكاديمية! فابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت: ربما..”. ويستمر حوارهما بعد أن عرفها بإسمه وعرفته بإسمها أيضاً وكان لابد لجهوده أن تثمر فقال وبكل ثقة “… أستقل حافلة الساعة السابعة يوميا فقالت : “إذن الى السابعة”. وهنا نرى تدفق العاطفة ومدى تأثيرها في أعماقه عندما وصلت بنفس الوقت حيث ” أشرقت وإعشوشب الاسفلت تحت خطواتها ولاح الربيع قادما قبل أوانه ولم نفترق بعدها ابدا…”، ولكن وللأسف فإن كلمة “أبداً” قد خانتهما، فقد اتفقا على الزواج بعد تخرجها بينما سيق هو إلى حرب مجنونة بيننا وبين الجارة إيران. وعند أول إجازة ” احرقتُ الهاتفَ رنينا ولم يجبني احد فاسرعتُ صباح اليوم التالي الى بيتها فوجدته خاويا والجيران يتهربون من الاجابة.. “. وكادت المفاجأة صاعقة عليه عندما مر شيخ بقربه وقال: “تبعية دون ان يتوقف او يلتفت….” اليه حيث شعر بأن صاعقة ضربته على رأسه ومادت الارض تحت قدمه. ولم يكن هناك جدوى من انتظارها احرق صورها وحاول اشغال نفسه باكثر من.
تداعيات نحو الماضي أوقف انهمارها نداء رجل من خلفه ” قم يا رجل وصلت الحافلة محطتها الاخيرة…”، حيث تأتي المفاجأة عند نزوله عندما تلافت نظراته مع من كان يبحث عنها: “عدنا منذ بضعة سنين وقد لمستك لاتأكد بانها الحقيقة ولست في حلم… لابد ان اسرع فزوجي واولادي ينتظرونني على الغداء..”ثم غابت عنه ثانية تاركة عطرها في صدره فقد “اختفت وسط الزحام” و… إلى الأبد.
لقدحاول القاص ثائر البياتي اشغالنا منذ الاسطر الاولى للقصة لنشعر بنوع من الغموض وقد نجح في مسعاه عندما جعلنا نتابع وبتسارع ما يمكن اقتناصه لربط مفاصل السرد. فالهمسة التي هبت تَزامَنَ معها خفقان قلب. يبدو أنه الحب فقد “أزالت بعض التعب..”. ونلاحظ جملة ” ما ان جلستُ لمس كتفي كفٌّ رقيقٌ ناعمٌ..”. إنَّ الكف الرقيق الناعم هو الذي مسك كتفَه حيث قدم المفعول به بطريقة سلسة ورائعة ولكن لابد أن نتساءل: كيف شعر بأن الكفَّ ناعمٌ. ومن غير المعقول أن يكون صدره عارياً ليشعر بنعومة الكف وهو وسط الناس. وعليه تكون صفة النعومة مؤذية للنص ورغم ذلك ممكن تبريرها عندما تقترن الرقة بالنعومة. لقد بدا هنا يعكس دواخله reveals himself حسب المصطلح السايكولوجي. ورغم سهولة وانسيابية لغة السرد فإن القاص حافظ وبمهارة على تكنيك mechanism القصة القصيرة من خلال اشراك المتلقي معه. وكانت تلك النسمة التي هبت في غير محلها والتي زادت من خفقان قلبه، ومضة مضيئة flash point رائعة تحسب للقاص التي عالجها بمهارة لافتة. وعند الحديث عن العناصر التي كونت القصة نرى شخصية واحدة رئيسية هو السارد نفسه اما الحبيبة فقد تحدث عنها باسلوب الشخص الثالث third person ” في تمام الساعة السابعة صباحا أشرقت وإعشوشب الاسفلت تحت خطواتها ولاح الربيع قادما قبل أوانه…”، مقطوعا بحوار ثنائي dialogue معها حيث بدت في منتهى الرزانة من خلال اجوبتها المختصرة. وقد بدا البعد الزمكاني غير واضح وذلك، وحسب رأيي المتواضع، لسببين الأول محاولة الإختصار وضغط مفاصل القصة والرغبة في عدم الإبتعاد عن جوهر القصة او ثيمتهاthem، والثاني الابتعاد عن الدخول في أمور قديكون القاص في غنىً عنها. فقد اكتفي بالاشارة للحرب ومساوئها عندما ابعدته عن حبيبته ولكنه أشار وبذكاء إلى أجواء الخوف والإرهاب عندما جاء الجواب على لسان شيخ وليست شاب:” فمر شيخ بقربي وقال: تبعية دون ان يتوقف او يلتفت الي فضربت صاعقة رأسي ومادت الارض تحت قدمي.” إن الأشارة إلى التهجير إدانة لكل عمل عنصري أو مذهبي شوفيني يمزق ويشتت الشعب كنسيج متجانس منذ عقود لا تحصى. وبنفس السياق قد لايفهم القاري البعيد عن الأحداث كيف رجعت حبيبته بعد أن هُجرت عنوة بزمن نظام البعث ورجعت لوطنها بعد سقوطه.
وكانت أصعب لحظاته عندما يئس من رجوعها فقد تحولت حياته إلى رماد وقام بتمزيق صورها والتخلص منها. وسهل جداً تمزيق صور من نكره ولكن تمزيق صور من نعشق ونحب بكل نبل وقدسية من أصعب وأعمق حالات الشد والتأزم النفسي psychological stress. لقد جمعهما حب نقي مقدس بدلالة افتراقهما بعد لقائهما غير المتوقع لأنها أصبحت بعهدة زوج وهذا أيضاً يتماهى مع تمزيق صورها حيث اقتران اليأس مع دوافعه في الحفاظ على سمعتها وهي مهجرة في ديار الغربة. فقد تغيرت الأمور وأصبح الفراق لابد منه. لقد بدأ القاص قصته بنسمات عطر حبيبته ليختمها أيضاً بعطرها في صدره عندما “اختفت وسط الزحام.”. لقد جعلنا القاص ثائر البياتي نشم عطر حبيبته في موقف الحافلة وفي داخلها وأيضاً بعد سنين من الفراق والغربة، وقد انسجم هذا الإحساس مع عتبة القصة “شذى” والتي بدت منسجمة تماما مع معطيات الحدث وهذا بحد ذاته تبئير لافت للنص وإضافة إبداعية إلى القاص المبدع ثائر البياتي…
2) ألقصة:
هبت نسمة في غير أوانها فشرحت صدري وخفق لها قلبي وأزالت بعض التعب، تلفت لإرى ردة فعلها على من حولي فلم أر لها تأثيرا على وجه احد .. وصلت الحافلة وأحب دائما أن اجلس في الطابق العلوي لأكون بمستوى تحليق الحمامات والعصافير ما ان جلست لمس كتفي كف رقيق ناعم وشممت عطرا لطالما حملني الى بساتين نخيل وجداول وعشب ندي فالتفت للخلف فلم أر وجها اعرفه .. سارت بنا الحافلة تتهادى وعادت بي السنوات .. أجبرني قلبي على الحديث معها فكذبت وسألتها: ألست طالبة في معهد الادارة؟ فأجابت دون ان تلتفت: لا انا طالبة في اكاديمية الفنون الجميلة ، فكذبت ثانية وقلت: لكني رأيتك كثيرا وأردفت: ربما من ترددي المستمر على الاكاديمية! فابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت : ربما فتجرأت وذكرت لها اسمي فاتسعت ابتسامتها وذكرت لي اسمها ، ثم تبادلنا احاديث عادية عن الدراسة والدوام والمواصلات ، حين وصلت الحافلة محطتها الاخيرة في بغداد الجديدة قلت لها : ولابد أن يستغل فرصته ويبدو أنه ماهر في الوصول لمبتغاه عندما استدرجها ” ألست طالبة في معهد الادارة؟ فأجابت دون ان تلتفت: لا انا طالبة في اكاديمية الفنون الجميلة ، فكذبت ثانية وقلت: لكني رأيتك كثيرا، ربما من ترددي المستمر على الاكاديمية! فابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت: ربما..”.. في تمام الساعة السابعة صباحا أشرقت وإعشوشب الاسفلت تحت خطواتها ولاح الربيع قادما قبل أوانه ولم نفترق بعدها ابدا .. إنسابت السنتان إنسياب نهر هاديء رقراق وأوشكت على التخرج وما زال امامها سنتين للتخرج فاتفقنا على الزواج فور تخرجها ، بعدها ودعتها والتحقت مجبرا للخدمة العسكرية الالزامية، اختصروا التدريب لشهر واحد فالحرب تحتاج لمزيد من الحطب فالقوا بنا مباشرة الى الجحيم ولما نزل في العشرين لا نعرف العنف والقسوة.. بعد شهرين وفي اول يوم من اول اجازة لي احرقت الهاتف رنينا ولم يجبني احد فاسرعت صباح اليوم التالي الى بيتها فوجدته خاويا والجيران يتهربون من الاجابة ، وقفت حائرا لا ادري ماذا فمر شيخ بقربي وقال: تبعية دون ان يتوقف او يلتفت الي فضربت صاعقة رأسي ومادت الارض تحت قدمي ، تبعية تعني مأساة لكلينا لا طاقة لنا لتحملها وتعني فراق الى الابد، لا جدوى من ذكر عمق ألمي وشدة غضبي فما الفائدة وقد استحال قلبي رمادا وصارت حياتي بلا معنى ..بالرغم من إنني بعد سنوات طوال احرقت كل الصور ومحوت أي اثر واغرقت نفسي باكثر من عمل في وقت واحد الا ان طيفها ظل يتجسد امامي كلما هدلت حمامة وكلما هبت نسمة باردة وكلما شممت رائحة عشب ندي ، فجأة ربت رجل على كتفي وقال: قم يا رجل وصلت الحافلة محطتها الاخيرة ، ما ان ترجلت التقت عيوننا ارتجفت وارتبكت وانعقد لساني فقالت عدنا منذ بضعة سنين وقد لمستك لاتأكد بانها الحقيقة ولست في حلم ، وقبل ان استرد انفاسي قالت : لابد ان اسرع فزوجي واولادي ينتظرونني على الغداء فمددت يدي اريد ان المسها لاتأكد من انها الحقيقة ولست في حلم لكنها تركت عطرها في صدري واختفت وسط الزحام …..