قصة

آثار جانبية

صبري سلامة

حالة من الهرج، أصوات، وعبارات شجب، وأخرى تعجّب. أضفت على هذا اليوم طابعاً فريداً دون أيام روتين الشركة، يوم كحجر أُلقيَ فجأةً في بركة مياه راكدة، صوت عربة إسعاف، أصبحت كل حجرات المكاتب بلا موظفين إلا حجرتين؛ الأولى في منتصفها كرسي، ترتمي عليهِ.. فضيلة.. إحدى موظفات الشركة، ممزقة الملابس، مهوشة الشعر، في حالة إغماء، محاطةٌ بأفواهٍ لازالت تُلقي حروفاً، وكلماتٍ ما قيل منها لا يعدوشيئاً مما تنم به عيونهم. مع محاولات زميلاتها لإفاقتها.. أما الحجرة الثانية فكان للكلمات إيقاعٌ آخر في الحدة، وقسوة سياط اللوم الموجه إلى سعد الذي تترامى اليه الوجوه والكلمات أشبه بصدى أصوات من عوالم بعيدة.. فهومعهم جسمًا بلا شعور أما ما تبقى من عقله فقد ذهب في رحلة هناك.. في غرفة بمنزله منذ خمس سنوات مضت.. معها بثوب عرسها الأبيض أخيراً. بعد تردد أبيها في قبوله زوجا لها وهي الحاصلة على درجة الدكتوراه في الكيمياء وبحوث الأدوية، ولكن بعد إصرارها وافق الأب بالرغم من كون سعد موظفًا بسيطًا في شركة تسويق ملابس جاهزة ..

خارج الغرفة يعلوالضجيج، مع حضور رجال الشرطة، يُفسح لهم الطريق للوصول إلى سعد.

_ تفضل معنا ..

يقولها الضابط لسعد، ولم يحدث شيء. فيعيدها مرة، ومرة، وعندما لم يستجب له يأمر فردي الشرطة باقتياده إلى الخارج، وركوبه عربة البوكس، تتحرك العربة، وكذلك يتحرك لسان سعد، وتنسل منه بعض الكلمات.. وعيناه على أرضية العربة..

  • قالت لي، ونحن في غرفتنا: أخيرا تحقق الحلم.. هيا لنكمله.. هاهاها

انطلقت ضحكة هيستيرية من سعد استحالت إلى بكاء مما جعل عسكري الشرطة يحكم قبضته عليه. ثم أكمل سعد في تبلد

_ هي قالت هيا لنكمل، ولم أستطع أن أُكمل.. لا أعرف السبب، وليس ذنبي …

ثم نظر إلى الشرطي المرافق بجانبه وسأله في لا مبالاة ..

_ هل هذا ذنبي..؟ أي شخص معرض لذلك … شيءٌ عادي ..

تصل عربة البوكس، ويتبدل المكان، وفي غرفة التحقيق يسأله المحقق .

_ لماذا فعلت ذلك مع السيدة فضيلة الموظفة معك بنفس الشركة ؟

لم تصل حروف السؤال إلى أُذني سعد فقد كانت عيناه تراقب جهاز التلفاز الموجود بالغرفة بالرغم من أنه مغلق وبعد أن أغمض عينيه، وفتحهما كان هناك في بيته يشاهد التلفاز، عيونه تلتهم فواصل الإعلانات بين الأغاني وكذلك الشريط بأسفل الشاشة، ويرى نفسه تارةً حصان، وتارةً أُخرى أسد، وثالثة أقوى من الصلب والفولاذ.. فيلتقط الهاتف، وينتظر خدمة التوصيل للمنازل، لكن كان حصانه أعرج، وأسده بلا أنياب، حتى الفولاذ أكله الصدأ.. و.. و..

_ أستاذ سعد ..

صوت المحقق يطفئ شاشة التلفاز أمام عينيه ..

_ ألم تسمع سؤالي ؟ أستاذ سعد أنت متهم بمحاولة الاعتداء على السيدة فضيلة.. ما قولك فيما هو منسوب اليك ؟

_ سيدي أنا لم أفعل ذلك صدقني ..

_ كيف أصدقك ؟ وقد شهد بذلك كل موظفي الشركة ممن شهدوا الواقعة ..

_ سيدي لم تكن فضيلة أبدا.. بل كانت زوجتي .

_كيف ذلك ؟ وهل تعمل زوجتك بنفس محل عملك ؟

_ كلا سيدي. هل لي بفنجان قهوة من فضلك ..؟

بامتعاض رزين يرد المحقق

_ حسناً..

تأتي القهوة، وتغوص عينا سعد داخل الفنجان.. يرى زوجته تقدم له فنجان القهوة بعد أن وضعت فيه بعضًا من قطرات من زجاجة تخبؤها بعناية، وكان سعد ما بين عين تشاهد ألوان مختلفة من أجساد بشرية على الشاشة وبين شفاه ترتشف قهوته المحوجة، وما إن انتهى منها حتى صهل حصانه، وزأر الأسد، وطارد فريسته إلى داخل غرفته، وليلة بعد ليلة، وفنجان تلو الآخر، وبعد أن هدأ الصهيل داخل الغرفة.. إذا بهم اثنان بالداخل معه هو، وزوجته الراقدة بجواره.. فأسرع يلملم عليها الغطاء، وفي فزع يسألهما ..

_ من أنتما …؟ وكيف دخلتما هنا..؟

في برود يرد أحدهما ..

_ اهدأ.. وليكن سؤالك.. كيف خرجتما ؟

بعصبية يمسك سعد رأسه بكلتا يديه، ويغمض عينيه.. وصورتهما مشوشة أمامه تظهر حيناً وتختفي حيناً..

_ من أنتما ؟ و.. و.. كيف.. خرجتما ؟

_ حسناً.. خرجنا من رأسك، من عقلك، ونحن أنت.. أما زوجتك فلا خوف عليها منا فنحن نعرف كل تفاصيلها.. ونعرف أيضا الحصان الأعرج والأسد الأهتم و…

قاطعهما وقد زاد غضبه، وصوته ..

_ اخرجا من هنا وإلا …

استيقظت زوجته منزعجة، تسأله ..

_ ما بك..؟ ماذا حدث ؟ وإلى من تتحدث ؟

وهولا يزال ينظر إليهما يقتربان منه وينسلان إلى داخل رأسه ويختفيان ..

_ أستاذ سعد.. أستاذ سعد. هل انتهيت من قهوتك ؟

يرد على المحقق في ارتباك.. والتفاتات من عيون قلقة

_ نعم.. أشكرك ..

_عفوا .

قالها المحقق خالية من أي عفو

_ حسناً.. لنكمل.. كيف كانت زوجتك في محل عملك بالشركة وقت وقوع حادث الاعتداء..؟

يلتفت سعد للمحقق ليجيب.. فيراهما يقفان خلفه.. فيقف فجأة في مكانه، ويصيح فيهما .

_ ما الذي أتى بكما إلى هنا ؟.. أرجوكما لا تُخبرا أحداً بأمر الأعرج، والأهتم ..

يستدير المحقق، وينظر خلفه ثم يتوجه إلى كاتبه وفي غضب يمليه .

_ ينقل إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية للكشف على قواه العقلية، وعمل التحاليل اللازمة .

تظهر نتيجة التحاليل، وتُستدعى الزوجة، يسألها الطبيب .

_ يتعاطى زوجك أي نوع من المسكرات أو المخدرات ..؟

_ لا ..!

_ كيف ذلك؟.. اذاً انظري بنفسك يا دكتور.

تمسك بتقارير التحاليل، وتظهر النتيجة على ملامحها فترتبك، وتخلع نظارتها، تنظر للطبيب .

_ في الحقيقة.. هو لا يتعاطى أي شيء، ولكن.. ولكن ..

_ لكن ماذا ..؟ أرجوكِ وضحي الأمر.. كما تعلمين من نتيجة التحاليل للدم أن به نسبة كبيرة من موادٍ محفزة عصبياً، وموادٍ مهلوسة. لذلك أرجو منكِ أن تتكلمي بصراحةٍ .

_ سيدي.. أنا أحب زوجي كثيرا كما أعشقُ عملي.. أردتُ بعملي، وعلمي أن أُساعده، وأحقق حلمي في اختراع دواء لمثل حالته.. و.. وكذلك ربح أموال لنا من حق بيع اختراعي.. فكنتُ ..

ثم سكتت، وأدارت وجهها بعيداً ناحية الحائط ..

_ أكملي كنتِ ماذا ..؟

_ كنتُ أُجرب تركيبتي الجديدة عليه دون علمه مع قهوته..

_ ماذا ؟ أتدركين ما تقولين ؟

ترد بنبرة صوت أقرب إلى الهمس في ندم .

_ نعم أُدرك ذلك، ولكن …

قاطعها جرس هاتفها، وعندما رأت اسم مشتري العقار لم ترد، وتكرر الرنين وكذلك عدم استجابتها فيصمت الهاتف وتلتفت الى الطبيب .

_ سيدي قلت لك أدرك ما فعلت ولكن ….

يقاطعها هو هذه المرة منفعلا..

_ ولكن ماذا.. جعلتِ من زوجك فأر تجارب ..؟ أي حب هذا

وفي تأفف ترد

_ صدقني.. كان هدفي نبيلاً..

_ أي نبل تقصدين؟ وبكم الجرعة من هذا النبل المركز؟.. سيدتي كما أن للعقار آثار جانبية رغم فوائده وهدفه النبيل. كذلك للحب أيضا آثاره الجانبية، وأول من يعاني منها هومن نحب. وكما للعلم فوائده له أيضًا  آثار جانبية عندما يصبح له ثمن ويجسم في هيئة سلعة..

  • أنتِ مدانة أمام القانون الا أنه لا دليل ضدك. سأدلي بشهادتي على أية حال.. إلى اللقاء سيدتي .

تخرج مسرعة من عنده، وكلماته لا زالت تلهب ضميرها، وتدنس شهاداتها المعلقة على جدران بيتها، وترى تلك الكلمات تنزل مع كل قطرة من عقارها في أكواب، وفناجين القهوة، وترى نفسها في دوامةٍ داخل فنجان تدور، وتدور ومع نقرات الملعقة تأتي رسالة على الهاتف من مشتري العقار فتخرج من دوامتها لترد على الرسالة وتكتب:

..آثار جانبية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى